السابق

التالي

[8 : 231 ]

ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة فملكوها في صفر و كانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي و وزراؤها فنصبوا

عليها المجانيق و قدموا أسارى المسلمين بين أيديهم و هذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب فيصيبهم حدها و يسلمون هم من

مضرتها فملكوها عنوة و وضعوا السيف في أهلها و نهبوا ما يصلح لهم و أحرقوا ما لا يصلح لهم و خذل الناس عنهم حتى كان الواحد

منهم يقتل بيده مائة إنسان و السيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري خذلان صب على الناس و

أمر سمائي اقتضاه. ثم عادوا إلى همذان فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى فلم يكن في الناس فضل لذلك

لأنه كان عظيما جدا فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها و أسمعوه كلاما غليظا فقالوا أفقرتنا أولا و تريد أن تستصفينا دفعة ثانية

ثم لا بد للتتار أن يقتلونا فدعنا نجاهدهم بالسيف و نموت كراما ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه و اعتصموا بالبلد

فحصرهم التتار فيه فقلت عليهم الميرة و عدمت الأقوات و أضر ذلك بأهل همذان و لم ينل التتار مضرة من عدم القوت لأنهم لا

يأكلون إلا اللحم و الخيل معهم كثيرة و معهم غنم عظيمة يسوقونها حيث شاءوا و خيلهم لا تأكل الشعير و لا تأكل إلا نبات الأرض

تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأكلها. فاضطر رئيس همذان و أهلها إلى الخروج إليهم فخرجوا و التحمت الحرب بينهم أياما و

فقد رئيس همذان هرب في سرب قد كان أعده إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد و لم يعلم حقيقة حاله فتحير أهل همذان بعد فقده و

دخلوا المدينة و اجتمعت كلمتهم على القتال في قصبة البلد إلى أن يموتوا و كان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل

منهم فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد طمعوا و استدلوا على ضعف أهله فقصدوهم و قاتلوهم

[8 : 232 ]

و ذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة و ستمائة و دخلوا المدينة بالسيف و قاتلهم الناس في الدروب و بطل السلاح للازدحام و

اقتتلوا بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى و ظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا و لم يسلم منهم إلا من كان له نفق في

الأرض يستخفي فيه ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها و رحلوا إلى مدينة أردبيل و أعمال أذربيجان فملكوا أردبيل و قتلوا فيها

فأكثروا. ثم ساروا إلى تبريز و كان بها شمس الدين عثمان الطغرائي قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن

البهلوان للبلاد خوفا من التتار و مقامه بنقجوان فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع و حذرهم عاقبة التخاذل و حصن البلد

فلما وصل التتار و رأوا اجتماع كلمة المسلمين و حصانة البلد طلبوا منهم مالا و ثيابا فاستقر الأمر بينهم على شيء معلوم فسيروه

إليهم فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان فقاتلهم أهلها فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة و وضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم

أجمعين ثم ساروا إلى مدينة كنجة و هي أم بلاد أران و أهلها ذوو شجاعة و بأس و جلد لمقاومتهم الكرج و تدربهم بالحرب فلم يقدر

التتار عليهم و أرسلوا إليهم يطلبون مالا و ثيابا فأرسلوه إليهم فساروا عنهم فقصدوا الكرج و قد أعدوا لهم فلما صافوهم هرب

الكرج و أخذهم السيف فلم يسلم إلا الشريد و نهبت بلادهم و أخربت و لم يوغل التتار في بلاد الكرج لكثرة مضايقها و دربنداتها

فقصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي و صعدوا سورها في السلاليم و ملكوا البلد بعد حرب شديدة و قتلوا فيه فأكثروا.

[8 : 233 ]

فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند فلم يقدموا عليه فأرسلوا إلى شروانشاه ملك الدربند فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه و بينهم في

الصلح فأرسل إليهم عشرة من ثقاته فلما وصلوا إليهم جمعوهم ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين و قالوا للتسعة إن أنتم

عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان و إلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم فقالوا لهم لا طريق في هذا الدربند و لكن نعرفكم موضعا هو

أسهل المواضع لعبور الخيل. و ساروا بين أيديهم إليه فعبروا الدربند و تركوه وراء ظهورهم و ساروا في تلك البلاد و هي مملوءة من

طرائق مختلفة منهم اللان و اللكر و أصناف من الترك فنهبوها و قتلوا الكثير من ساكنيها و رحلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة و قد

وصلهم خبرهم و جمعوا و حذروا و انضاف إليهم جموع من قفجاق فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر فأرسل التتار إلى قفجاق

أنتم إخواننا و جنسنا واحد و اللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم و لا دينهم دينكم و نحن نعاهدكم ألا نعرض لكم و نحمل إليكم من

المال و الثياب ما يستقر بيننا و بينكم على أن تنصرفوا إلى بلادكم. فاستقر الأمر بينهم على مال و ثياب حملها التتار إليهم و فارقت

قفجاق اللان فأوقع التتار باللان فقتلوهم و نهبوا أموالهم و سبوا نساءهم فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق و هم آمنون

متفرقون لما استقر بينهم و بين التتار من الصلح فلم يشعروا بهم إلا و قد طرقوهم و دخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول و

أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم و سمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى. ففروا عن غير قتال فأبعدوا فبعضهم بالغياض و

بعضهم بالجبال و بعضهم لحقوا ببلاد الروس و أقام التتار في بلاد قفجاق و هي أرض كثيرة المراعي في الشتاء و فيها أيضا أماكن باردة

في الصيف كثيرة المراعي و هي غياض على ساحل البحر.

[8 : 234 ]

ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس و هي بلاد كثيرة عظيمة و أهلها نصارى و ذلك في سنة عشرين و ستمائة فاجتمع الروس و قفجاق

عن منعهم عن البلاد فلما قاربهم التتار و عرفوا اجتماعهم رجعوا القهقرى إيهاما للروس أن ذلك عن خوف و حذر فجدوا في اتباعهم و

لم يزل التتار راجعين و أولئك يقفون آثارهم اثني عشر يوما. ثم رجعت التتار على الروس و قفجاق فأثخنوا فيهم قتلا و أسرا و لم

يسلم منهم إلا القليل و من سلم نزل في المراكب و خرج في البحر إلى الساحل الشامي و غرق بعض المراكب. و هذه الوقائع كلها

تولاها التتر المغربة الذين قادهم جرماغون فأما ملكهم الأكبر جنكزخان فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر فقسم أصحابه

أقساما فبعث قسما منهم إلى فرغانة و أعمالها فملكوها و بعث قسما آخر إلى ترمذ و ما يليها فملكوها و بعث قسما آخر إلى بلخ و ما

يليها من أعمال خراسان فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها و لم يتعرضوا لها بنهب و لا قتل و جعلوا فيها شحنة و كذلك فارياب و كثير من

المدن إلا أنهم أخذوا أهلها يقاتلون بهم من يمتنع عليهم حتى وصلوا إلى الطالقان و هي عدة بلاد و فيها قلعة حصينة و بها رجال

أنجاد فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها فسار بنفسه و عبر جيحون و معه من

الخلائق ما لا يحصى فنزل على هذه القلعة و بنى حولها شبه قلعة أخرى من طين و تراب و خشب و حطب و نصب عليها المنجنيقات و

رمى القلعة بها فلما رأى أهلها ذلك فتحوها و خرجوا و حملوا حملة واحدة فقتل منهم من قتل و سلم من سلم و خرج السالمون

فسلكوا تلك الجبال و الشعاب ناجين بأنفسهم و دخل التتار القلعة فنهبوا الأموال و الأمتعة و سبوا النساء و الأطفال.

[8 : 235 ]

ثم سير جنكزخان جيشا عظيما مع أحد أولاده إلى مدينة مرو و بها مائتا ألف من المسلمين فكانت بين التتار و بينهم حروب عظيمة

شديدة صبر فيها المسلمون ثم انهزموا و دخلوا البلد و أغلقوا أبوابه فحاصره التتار حصارا طويلا ثم أمنوا متقدم البلد فلما خرج

إليهم في الأمان خلع عليه ابن جنكزخان و أكرمه و عاهده ألا يتعرض لأحد من أهل مرو ففتح الناس الأبواب فلما تمكنوا منهم

استعرضوهم بالسيف عن آخرهم فلم يبقوا منهم باقية بعد أن استصفوا أرباب الأموال عقيب عذاب شديد عذبوهم به. ثم ساروا إلى

نيسابور ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل و الاستئصال ثم عمدوا إلى طوس فنهبوها و قتلوا أهلها و أخرجوا المشهد الذي به علي بن

موسى الرضا ع و الرشيد هارون بن المهدي و ساروا إلى هراة فحصروها ثم أمنوا أهلها فلما فتحوها قتلوا بعضهم و جعلوا على

الباقين شحنة فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فعاد عليهم عسكر من التتار فاستعرضوهم بالسيف فقتلوهم عن آخرهم.

ثم عادوا إلى طالقان و بها ملكهم الأكبر جنكزخان فسير طائفة منهم إلى خوارزم و جعل فيها مقدم أصحابه و كبراءهم لأن خوارزم

حينئذ كانت مدينة الملك و بها عسكر كثير من الخوارزمية و عوام البلد معروفون بالبأس و الشجاعة فساروا و وصلوا إليها فالتقى

الفئتان و اقتتلوا أشد قتال سمع به و دخل المسلمون البلد و حصرتهم التتار خمسة أشهر و أرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد

فأمدهم بجيش من جيوشه فلما وصل قويت منتهم به و زحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه و ولجوا المدينة فقاتلهم

المسلمون داخل البلد فلم يكن لهم به طاقة فملكوه و قتلوا كل من فيه فلما فرغوا منه و قضوا وطرهم من القتل و النهب فتحوا

السكر الذي يمنع

[8 : 236 ]

ماء جيحون عن خوارزم فدخل الماء البلد فغرق كله و انهدمت الأبنية فبقي بحرا و لم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة فإن غيره من

البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها و أما خوارزم فمن وقف للسيف قتل و من استخفى غرقه الماء أو أهلكه الهدم فأصبحت خوارزم

يبابا. فلما فرغ التتر من هذه البلاد سيروا جيشا إلى غزنة و بها حينئذ جلال الدين منكبري بن محمد خوارزمشاه مالكها و قد اجتمع

إليه من سلم من عسكر أبيه و غيرهم فكانوا نحو ستين ألفا و كان الجيش الذي سار إليهم التتار اثني عشر ألفا فالتقوا في حدود غزنة

و اقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام ثم أنزل الله النصر على المسلمين فانهزم التتر و قتلهم المسلمون كيف شاءوا و تحيز الناجون

منهم إلى الطالقان و بها جنكزخان و أرسل جلال الدين إليه رسولا يطلب منه أن يعين موضعا للحرب فاتفقوا على أن يكون الحرب

بكابل فأرسل جنكزخان إليها جيشا و سار جلال الدين إليها بنفسه و تصافوا هناك فكان الظفر للمسلمين و هرب التتار فالتجئوا إلى

الطالقان و جنكزخان مقيم بها أيضا و غنم المسلمون منهم غنائم عظيمة فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم و ذلك لأن أميرا من

أمرائهم اسمه بغراق كان قد أبلي في حرب التتر هذه جرت بينه و بين أمير يعرف بملك خان نسيب خوارزمشاه مقاولة أفضت إلى أن

قتل أخ لبغراق فغضب و فارق جلال الدين في ثلاثين ألفا فتبعه جلال الدين و استرضاه و استعطفه فلم يرجع فضعف جانب جلال

الدين بذلك فبينا هو كذلك وصله الخبر أن جنكزخان قد سار إليه من الطالقان بنفسه و جيوشه فعجز عن مقاومته و علم أنه لا طاقة

له به فسار نحو بلاد الهند و عبر نهر السند و ترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد فوصل إليها

[8 : 237 ]

جنكزخان فملكها و قتل أهلها و سبى نساءها و أخرب القصور و تركها كأمس الغابر. ثم كانت لهم بعد ملك غزنة و استباحتها وقائع

كثيرة مع ملوك الروم بني قلج أرسلان لم يوغلوا فيها في البلاد و إنما كانوا يتطرقونها و ينهبون ما تاخمهم منها و أذعن لهم ملوك

فارس و كرمان و التيز و مكران بالطاعة و حملوا إليهم الإتاوة و لم يبق في البلاد الناطقة باللسان الأعجمي بلد إلا حكم فيه سيفهم

أو كتابهم فأكثر البلاد قتلوا أهلها و سبق السيف فيهم العذل و الباقي أدى الإتاوة إليهم رغما و أعطى الطاعة صاغرا و رجع جنكزخان

إلى ما وراء النهر و توفي هناك. و قام بعده ابنه قاآن مقامه و ثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان و لم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم

نزلوا عليها مرارا في سنة سبع و عشرين و ستمائة و حاربهم أهلها و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة و لم يبلغوا منها غرضا حتى اختلف

أهل أصبهان في سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة و هم طائفتان حنفية و شافعية و بينهم حروب متصلة و عصبية ظاهرة فخرج قوم من

أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم و يتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم فنقل ذلك إلى قاآن بن

جنكزخان بعد وفاة أبيه و الملك يومئذ منوط بتدبيره فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة التي بنوها و سموها قراحرم فعبرت

جيحون مغربة و انضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم فنزلوا على أصفهان في سنة ثلاث و ثلاثين المذكورة و

حصروها فاختلف سيفا الشافعية و الحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم و فتحت أبواب المدينة و فتحها الشافعية على عهد بينهم

و بين التتار أن يقتلوا الحنفية و يعفوا عن الشافعية فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية فقتلوهم قتلا ذريعا و لم يقفوا مع العهد الذي

عهدوه لهم ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس

[8 : 238 ]

و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى و نهبوا الأموال و صادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان حتى صارت تلولا من

الرماد. فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم إلا و قد دوخوه صمدوا نحو إربل في سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و قد كانوا طرقوها مرارا

و تحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها و الأمير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي فنزل عليها في ذي القعدة من هذه السنة منهم نحو

ثلاثين ألف فارس أرسلهم جرماغون و عليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي فغاداها القتال و رواحها و بها عسكر جم من عساكر

الإسلام فقتل من الفريقين خلق كثير و استظهر التتار و دخلوا المدينة و هرب الناس إلى القلعة فاعتصموا بها و حصرهم التتار و طال

الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا و طلب باتكين منهم أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم فأظهروا الإجابة فلما

أرسل إليهم ما تقرر بينهم و بينه أخذوا المال و غدروا به و حملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة و زحفوا إليها زحفا متتابعا و

علقوا عليها المنجنيقات الكثيرة و سير المستنصر بالله الخليفة جيوشه مع مملوكه و خادم حضرته و أخص مماليكه به شرف الدين

إقبال الشرامي فساروا إلى تكريت فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل بعد أن قتلوا منها ما لا يحصى و أخربوها و تركوها

كجوف حمار و عادوا إلى تبريز و بها مقام جرماغون و قد جعلها دار ملكه. فلما رحلوا عن إربل عاد العسكر البغدادي إلى بغداد و كانت

للتتار بعد ذلك نهضات و سرايا كثيرة إلى بلاد الشام قتلوا و نهبوا و سبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب فأوقعوا بها و صانعهم

عنها أهلها و سلطانها ثم عمدوا إلى بلاد كيخسرو صاحب الروم و ذلك بعد أن هلك جرماغون و قام عوضه المعروف ببابايسيجو و كان

[8 : 239 ]

قد جمع لهم ملك الروم قضه و قضيضه و جيشه و لفيفه و استكثر من الأكراد العتمرية و من عساكر الشام و جند حلب فيقال إنه جمع

مائة ألف فارس و راجل فلقيه التتار في عشرين ألفا فجرت بينه و بينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته و كانت المقدمة كلها أو

أكثرها من رجال حلب و هم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم و انكسر العسكر الرومي و هرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له على

البحر تعرف بأنطاكية فاعتصم بها و تمزقت جموعه و قتل منهم عدد لا يحصى و دخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية ففعلوا

فيها أفاعيل منكرة من القتل و النهب و التحريق و كذلك بالمدينة المعروفة بسيواس و غيرها من كبار المدن الرومية و بخع لهم

صاحب الروم بالطاعة و أرسل إليهم يسألهم قبول المال و المصانعة فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة و رجعوا عن بلاده. و

أقاموا على جملة السكون و الموادعة للبلاد الإسلامية كلها إلى أن دخلت سنة ثلاث و أربعين و ستمائة فاتفق أن بعض أمراء بغداد و

هو سليمان بن برجم و هو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء و هي من التركمان قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف

بخليل بن بدر فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم يطوون المنازل و يسبقون خبرهم و مقدمهم المعروف بجكتاي

الصغير فلم يشعر الناس ببغداد إلا و هم على البلد و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة في فصل الخريف و قد كان الخليفة

المستعصم بالله أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط و كان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم و أوقعت

في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة و فساطيط مضروبة لا رجال تحتها و أنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم و

ثقلهم و يكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزموا إلى البلد و يعتصموا بجدرانه فأقبلت

[8 : 240 ]

التتر على هذا الظن و سارت على هذا الوهم فلما قربوا من بغداد و شارفوا الوصول إلى المعسكر أخرج المستعصم بالله الخليفة

مملوكه و قائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى ظاهر السور و كان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين فإن

التتار لو وصلوا و هو بعد لم يخرج لاضطرب العسكر لأنهم كانوا يكونون بغير قائد و لا زعيم بل كل واحد منهم أمير نفسه و

آراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأي واحد و لا يحكم عليها حاكم واحد فكانوا في مظنة الاختلاف و التفرق و الاضطراب و التشتت فكان

خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور و وصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر

فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا و ترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما و رأى التتر من كثرتهم و جودة سلاحهم و عددهم و

خيولهم ما لم يكونوا يظنونه و لا يحسبونه و انكشف ذلك الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد و البطلان. و كان مدبر أمر

الدولة و الوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي و لم يحضر الحرب بل كان ملازما ديوان الخلافة

بالحضرة لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه و تدبيراته بما ينتهون إليه و يقفون عنده فحملت التتار على عسكر بغداد حملات

متتابعة ظنوا أن واحدة منها تهزمهم لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم و أن الرعب و الخوف منهم يكفي و

يغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت و رشقوهم بالسهام و رشقت التتار أيضا بسهامها و أنزل الله

سكينته على عسكر بغداد و أنزل بعد السكينة نصره فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة و تظهر على التتار أمارات

الضعف و الخذلان إلى أن حجز الليل بين الفريقين و لم يصطدم الفيلقان و إنما

[8 : 241 ]

كانت مناوشات و حملات خفيفة لا تقتضي الاتصال و الممازجة و رشق بالنشاب شديد. فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة و

أوهموا أنهم مقيمون عندها و ارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم فأصبح العسكر البغدادي فلم ير منهم عينا و لا أثرا و ما

زالوا يطوون المنازل و يقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند و لحقوا ببلادهم. و كان ما جرى من دلائل النبوة لأن الرسول ص

وعد هذه الملة بالظهور و البقاء إلى يوم القيامة و لو حدث على بغداد منهم حادثة كما جرى على غيرها من البلاد لانقرضت ملة الإسلام

و لم يبق لها باقية. و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبة التي قدمنا ذكرها. قلت و

قد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين ع أنه لا بأس على بغداد و العراق منهم و أن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم و يرد عنها

كيدهم و ذلك من قوله ع و يكون هناك استحرار قتل فأتى بالكاف و هي إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد تقول للقريب هنا و

للبعيد هناك و هذا منصوص عليه في العربية و لو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال هناك بل كان يقول هنا لأنه ع خطب بهذه

الخطبة في البصرة و معلوم أن البصرة و بغداد شيء واحد و بلد واحد لأنهما جميعا من إقليم العراق و ملكهما ملك واحد فيلمح هذا

الموضع فإنه لطيف.

[8 : 242 ]

و كتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام و رجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتا أنسب

إليه الفتح و أشير إلى أنه هو الذي قام بذلك و إن لم يكن حاضرا له بنفسه و أعتذر إليه عن الإغباب بمديحه فقد كانت الشواغل و

القواطع تصد عن الانتصاب لذلك

أبقى لنا الله الوزير و حاطه بكتائب من نصره و مقانب

و امتد وارف ظله لنزيله وصفت متون غديره للشارب

يا كالئ الإسلام إذ نزلت به فرغاء تشهق بالنجيع السالب

في خطة بهماء ديمومية لا يهدى فيها السليك للاحب

لا يمتطي سلساتها مرهوبة الإبساس جلس لا تدر لعاصب

فرجت غمرتها بقلب ثابت في حملة ذعرى و رأي ثاقب

ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها كم حاضر يعصى بسيف الغائب

عمر الذي فتح العراق و إنما سعد حسام في يمين الضارب

أثني عليك ثناء غير موارب و أجيد فيك المدح غير مراقب

و أنا الذي يهواك حبا صادقا متقادما و لرب حب كاذب

حبا ملأت به شعاب جوانحي يفعا و ها أنا ذو عذار شائب

[8 : 243 ]

إن القريض و إن أغب متيم بكم و رب مجانب كمواظب

و لقد يخالصك القصي و ربما يمنى بود مماذق متقارب

سدت مسالكه هموم جعجعت بالفكر حتى لا يبض لحالب

و من العناء مغلب في حظه يبغي مغالبة القضاء الغالب

و هي طويلة و إنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال

[8 : 244 ]

129- و من خطبة له ع في ذكر المكاييل و الموازين

عِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ فَرُبَّ دَائِب مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِح

خَاسِرٌ وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لَا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً وَ الشَّرُّ إِلَّا إِقْبَالًا وَ الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَ

عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً أَوْ بَخِيلًا

اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ

الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ إِلَّا

فِي حُثَالَة لَا تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فَلَا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَ لَا زَاجِرٌ

مُزْدَجِرٌ أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لَا يُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَ لَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا

بِطَاعَتِهِ

[8 : 245 ]

لَعَنَ اللَّهُ الآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ وَ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ

أثوياء جمع ثوي و هو الضيف كقوي و أقوياء و مؤجلون مؤخرون إلى أجل أي وقت معلوم. و مدينون مقرضون دنت الرجل أقرضته

فهو مدين و مديون و دنت أيضا إذا استقرضت و صارت على دين فأنا دائن و أنشد

ندين و يقضي الله عنا و قد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيعا

و مقتضون جمع مقتضى أي مطالب بأداء الدين كمرتضون جمع مرتضى و مصطفون جمع مصطفى. و قوله أجل منقوص أي عمر و قد جاء

عنهم أطال الله أجلك أي عمرك و بقاءك و الدائب المجتهد ذو الجد و التعب و الكادح الساعي. و مثل قوله فرب دائب مضيع و رب

كادح خاسر قول الشاعر

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

و مثله

إذا لم يكن عون من الله للفتى أتته الرزايا من وجوه الفوائد

و هو كثير و الأصل فيه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً و يروى فرب دائب مضيع بغير تشديد.

[8 : 246 ]

و قوله و أمكنت فريسته أي و أمكنته فحذف المفعول. و قوله فاضرب بطرفك لفظة فصيحة و قد أخذها الشاعر فقال

فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا...

و الوفر المال الكثير أي بخل و لم يؤد حق الله سبحانه فكثر ماله. و الوقر بفتح الواو الثقل في الأذن و روي المنغصة بفتح الغين.

الحثالة الساقط الرديء من كل شيء. و قوله لا تلتقي بذمهم الشفتان أي يأنف الإنسان أن يذمهم لأنه لا بد في الذم من إطباق أحد

الشفتين على الأخرى و كذلك في كل الكلام. و ذهابا عن ذكرهم أي ترفعا يقال فلان يذهب بنفسه عن كذا أي يرفعها. و لا زاجر مزدجر

أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح و ينزجر هو عنه. و دار القدس هي الجنة و لا يخدع الله عنها لأنه لا تخفى عليه خافية و لا يجوز

عليه النفاق و التمويه ثم لعن الآمر بالمعروف و لا يفعله و الناهي عن المنكر و يرتكبه و هذا من قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ

تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. و لست أرى في هذه الخطبة ذكرا للموازين و المكاييل التي أشار إليها الرضي رحمه الله اللهم إلا أن يكون قوله

ع و أين المتورعون في مكاسبهم أو قوله ظهر الفساد و دلالتهما على الموازين و المكاييل بعيدة

نبذ من أقوال الحكماء و الصالحين

و اعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح و موعظة بالغة من ذكر الدنيا

[8 : 247 ]

و ذكر أهلها و نحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء و الصالحين تناسبها على عادتنا في إيراد الأشباه و النظائر. قال بعض الصالحين ما

أدري كيف أعجب من الدنيا أ من حسن منظرها و قبح مخبرها أم من ذم الناس لها و تناحرهم عليها قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا

على أمسي كارها ليومي متهما لغدي. قيل لأعرابي كيف ترى الدهر قال خدوعا خلوبا وثوبا غلوبا. قيل لصوفي لم تركت الدنيا قال

لأني منعت صفوها و امتنعت من كدرها. و قيل لآخر لم تركت الدنيا قال لأني عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها و أعشق ما أكون لها أغدر

ما تكون بي و أنشد لبشر الحافي

قرير العين لا ولد يموت و لا حذر يبادر ما يفوت

رخي البال ليس له عيال خلي من حربت و من دهيت

قضى وطر الصبا و أفاد علما فعاتبه التفرد و السكوت

و أكبر همه مما عليه تذابح من ترى خلق و قوت

قال أبو حيان سمعت ابن القصاب الصوفي يقول اسمع و اسكت و انظر و أعجب قال ابن المعتز

مل سقامي عوده و خان دمعي مسعده

و ضاع من ليلي غده طوبى لعين تجده

قلت من الدهر يده يفنى و يبقى أبده

و الموت ضار أسده و قاتل من يلده

[8 : 248 ]

و من الشعر القديم المختلف في قائله

قصر الجديد إلى بلى و الوصل في الدنيا انقطاعه

أي اجتماع لم يعد بتفرق منها اجتماعه

أم أي شعب ذي التئام لم يبدده انصداعه

أم أي منتفع بشيء ثم تم له انتفاعه

يا بؤس للدهر الذي ما زال مختلفا طباعه

قد قيل في مثل خلا يكفيك من شر سماعه

قيل لصوفي كيف ترى الدنيا قال و ما الدنيا لا أعرف لها وجودا قيل له فأين قلبك قال عند ربي قيل فأين ربك قال و أين ليس هو قال

ابن عائشة كان يقال مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدا الذنوب و مجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق و

مجالسة العلماء تزكي النفوس. و من كلام بعض الحكماء الفصحاء كن لنفسك نصيحا و استقبل توبة نصوحا و ازهد في دار سمها ناقع

و طائرها واقع و ارغب في دار طالبها منجح و صاحبها مفلح و متى حققت و آثرت الصدق بان لك أنهما لا يجتمعان و أنهما كالضدين لا

يصطلحان فجرد همك في تحصيل الباقية فإن الأخرى أنت فان عنها و هي فانية عنك و قد عرفت آثارها في أصحابها و رفقائها و صنعها

بطلابها و عشقائها معرفة عيان فأي حجة تبقى لك و أي حجة لا تثبت عليك و من كلام هذا الحكيم فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر

و نائلها قاصر و عزيزها ذليل و صحيحها عليل و الداخل إليها مخرج و المطمئن فيها مزعج و الذائق من شرابها سكران و الواثق

بسرابها ظم آن ظاهرها غرور و باطنها شرور و طالبها

[8 : 249 ]

مكدود و عاشقها مجهود و تاركها محمود العاقل من قلاها و سلا عنها و الظريف من عافها و أنف منها و السعيد من غمض بصره عن

زهرتها و صرفه عن نضرتها و ليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها و إشارتها إلى نقصها و لعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا لا

لسانا قئولا و عملا مقبولا لا لفظا منقولا فإلى الله الشكوى من هوى مطاع و عمر مضاع فبيده الداء و الدواء و المرض و الشفاء. قال

أبو حرة أتينا بكر بن عبد الله المري نعوده فدخلنا عليه و قد قام لحاجته فجلسنا ننتظره فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين فلما نظر إلينا

سلم علينا ثم قال رحم الله عبدا أعطي قوة فعمل بها في طاعة الله أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله. و قال بكر بن عبد الله مثل

الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان قال له أحدهم أنا خازنك خذ مني ما شئت فاعمل به ما شئت و قال الآخر أنا معك أحملك و

أضعك فإذا مت تركتك و قال الآخر أنا أصحبك أبدا حياتك و موتك فأما الأول فماله و أما الثاني فعشيرته و أما الثالث فعمله. قيل

للزهري من الزاهد في الدنيا قال من لم يمنع الحلال شكره و من لم يمنع الحرام صبره. و قال سفيان الثوري ما عبد الله بمثل العقل

و لا يكون الرجل عاقلا حتى تكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأمونا و الخير منه مأمولا يقتدي بمن قبله و يكون إماما لمن بعده

و حتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله و حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام و

حتى يكون عيشة القوت و حتى يستقل الكثير من عمله و يستكثر القليل من عمل غيره و حتى لا يتبرم بطلب الحوائج

[8 : 250 ]

قبله و العاشرة و ما العاشرة بها شاد مجده و علا ذكره أن يخرج من بيته فلا يستقبله أحد من الناس إلا رأى أنه دونه. قال يونس بن

حبيب كان عندنا بالبصرة جندي عابد فأحب الغزو فلما خرج شيعته فقلت أوصني فقال أوصيك بتقوى الله و أوصيك بالقرآن فإنه نور

الليل المظلم و هدى النهار المشرق فاعمل به على ما كان من جهد و فاقة فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك فإن تجاوز البلاء فقدم

مالك و نفسك دون دينك و اعلم أن المحروب من حرب دينه و المسلوب من سلب يقينه إنه لا غنى مع النار و لا فقر مع الجنة و إن

جهنم لا يفك أسيرها و لا يستغني فقيرها. ابن المبارك كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير فلم يزل الأمر يترقى

حتى بلغ إلى عابد مشهور فأراده على أكلها و هدده بالقتل فشق ذلك على الناس فقال له صاحب شرطته إني ذابح لك غدا جديا فإذا

دعاك هذا الجبار لتأكل فكل فإنما هو جدي فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل فقال أخرجوه و اضربوا عنقه فقال له الشرطي ما منعك أن

تأكل من لحم جدي قال إني رجل منظور إلي و إني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله فقدمه فقتله. سفيان الثوري كان رجل

يبكي كثيرا فقال له أهله لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك فقال قد قتلت نفسي فلعل وليها يعفو عني. و

كان أيوب السختياني كثير البكاء و كان يغالط الناس عن بكائه يبكي مرة فيأخذ أنفه و يقول الزكمة ربما عرضت لي و يبكي مرة فإذا

استبان من حوله بكاءه قال إن الشيخ إذا كبر مج.

[8 : 251 ]

و من كلام أبي حيان التوحيدي في البصائر ما أقول في عالم الساكن فيه وجل و الصاحي بين أهله ثمل و المقيم على ذنوبه خجل و

الراحل عنه مع تماديه عجل و إن دارا هذه من آفاتها و صروفها لمحقوقة بهجرانها و تركها و الصدوف منها خاصة و لا سبيل لساكنها

إلى دار القرار إلا بالزهد فيها و الرضا بالطفيف منها كبلغة الثاوي و زاد المنطلق

[8 : 252 ]

130- و من كلام له ع لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة

يَا أَبَا ذَرّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اهْرُبْ

مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حَسَداً وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ

الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ

لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ

أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة

واقعة أبي ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان و قد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز

الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في

الناس ألا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به و تحاماه الناس إلا علي

[8 : 253 ]

بن أبي طالب ع و عقيلا أخاه و حسنا و حسينا ع و عمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر فقال له مروان إيها

يا حسن أ لا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك فحمل علي ع على مروان فضرب بالسوط

بين أذني راحلته و قال تنح لحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي ع و وقف أبو ذر فودعه

القوم و معه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب. قال ذكوان فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله

إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا

ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق و لا يوحشنك إلا الباطل ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم و قال لعقيل

ودع أخاك. فتكلم عقيل فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر و أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا فاتق الله فإن التقوى نجاة و اصبر فإن

الصبر كرم و اعلم أن استثقالك الصبر من الجزع و استبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس و الجزع. ثم تكلم الحسن فقال يا عماه

لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف و قد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك

الدنيا بتذكر فراغها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتى تلقى نبيك ص و هو عنك راض. ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه إن

الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى

[8 : 254 ]

و الله كل يوم هو في شأن و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك فما أغناك عما منعوك و أحوجهم إلى ما منعتهم فاسأل الله الصبر

و النصر و استعذ به من الجشع و الجزع فإن الصبر من الدين و الكرم و إن الجشع لا يقدم رزقا و الجزع لا يؤخر أجلا. ثم تكلم عمار

رحمه الله مغضبا فقال لا آنس الله من أوحشك و لا آمن من أخافك أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك و لو رضيت أعمالهم لأحبوك و

ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا و الجزع من الموت مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه و الملك لمن غلب فوهبوا

لهم دينهم و منحهم القوم دنياهم فحسروا الدنيا و الآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا و

قال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم إني ثقلت على عثمان

بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به

ناصر و لا دافع إلا الله و الله ما أريد إلا الله صاحبا و ما أخشى مع الله وحشة. و رجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان

فقال له ما حملك على رد رسولي و تصغير أمري فقال علي ع أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته و أما أمرك فلم أصغره. قال أ ما بلغك

نهيي عن كلام أبي ذر قال أ و كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا قال من شتمه و جذب

راحلته قال أما راحلته فراحلتي بها و أما شتمه إياي فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك.

[8 : 255 ]

فغضب عثمان و قال لم لا يشتمك كأنك خير منه قال علي إي و الله و منك ثم قام فخرج. فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين و

الأنصار و إلى بني أمية يشكو إليهم عليا ع فقال القوم أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل قال وددت ذاك فأتوا عليا ع فقالوا لو

اعتذرت إلى مروان و أتيته فقال كلا أما مروان فلا آتيه و لا أعتذر منه و لكن إن أحب عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل

عثمان إليه فأتاه و معه بنو هاشم

فتكلم علي ع فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر و وداعه فو الله ما أردت مساءتك و لا الخلاف عليك

و لكن أردت به قضاء حقه و أما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز و جل فرددته رد مثلي مثله و أما ما كان مني إليك

فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده

فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك و أما ما

حلفت عليه فأنت البر الصادق فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره. فلما نهض قالت قريش و بنو أمية لمروان أ أنت رجل جبهك علي

و ضرب راحلتك و قد تفانت وائل في ضرع ناقة و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة أ فتحمل لعلي ع ما أتاه

إليك فقال مروان و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه. و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل أن عثمان نفى

[8 : 256 ]

أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان

يعمل بالشام. أصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال و اختص زيد بن ثابت بشيء منها جعل

أبو ذر يقول بين الناس و في الطرقات و الشوارع بشر الكافرين بعذاب أليم و يرفع بذلك صوته و يتلو قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ

الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت. ثم إنه أرسل إليه مولى

من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر أ و ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى و عيب من ترك أمر الله تعالى فو الله لأن

أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضا عثمان. فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر و تماسك إلى أن قال

عثمان يوما و الناس حوله أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال أبو ذر يا

ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها. فكان أبو ذر ينكر على معاوية

أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها و إن

كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه. ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة

و إن كانت من مالك فهي الإسراف و كان أبو ذر يقول بالشام و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه

ص

[8 : 257 ]

و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه. قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية إن

أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة. و روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل

الغفاري قال كنت غلاما لمعاوية على قنسرين و العواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على

باب داره يقول أتتكم القطار تحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له

فازبأر معاوية و تغير لونه و قال يا جلام أ تعرف الصارخ فقلت اللهم لا قال من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على

باب قصرنا بما سمعت ثم قال أدخلوه علي فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية يا عدو الله و عدو

رسوله تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك و

لكني أستأذن فيك قال جلام و كنت أحب أن أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف

العارضين في ظهره جنأ فأقبل على معاوية و قال ما أنا بعدو لله و لا لرسوله بل أنت و أبوك عدوان لله و لرسوله أظهرتما الإسلام و

أبطنتما الكفر و لقد لعنك رسول الله ص و دعا عليك مرات ألا تشبع

سمعت رسول الله ص يقول إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل و لا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه

فقال معاوية ما أنا ذاك

[8 : 258 ]

الرجل قال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله ص و

سمعته يقول و قد مررت به اللهم العنه و لا تشبعه إلا بالتراب

و سمعته ص يقول است معاوية في النار

فضحك معاوية و أمر بحبسه و كتب إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره فوجه به مع

من سار به الليل و النهار و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد. فلما قدم بعث

إليه عثمان الحق بأي أرض شئت قال بمكة قال لا قال بيت المقدس قال لا قال بأحد المصرين قال لا و لكني مسيرك إلى ربذة فسيره

إليها فلم يزل بها حتى مات. و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له

لا أنعم الله بقين عينا نعم و لا لقاه يوما زينا

تحية السخط إذا التقينا

فقال أبو ذر ما عرفت اسمي قينا قط و في رواية أخرى لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جندب و سماني رسول الله ص عبد

الله فاخترت اسم رسول الله ص الذي سماني به على اسمي فقال له عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة و إن الله فقير و

نحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده و لكني أشهد أني

سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباده خولا و دينه دخلا

فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا قال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما

تدرون أني صدقت قالوا لا و الله

[8 : 259 ]

ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فأعاده فقال عثمان لعلي ع أ

سمعت هذا من رسول الله ص قال لا و قد صدق أبو ذر فقال كيف عرفت صدقه قال لأني

سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر

فقال من حضر أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص فتتهمونني ما كنت أظن أني

أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص. و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم

دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت و فعلت فقال أبو ذر نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني قال عثمان كذبت

و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام فقال عثمان ما لك و ذلك

لا أم لك قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ

الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع و كان حاضرا فقال

أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي

مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ فأجابه عثمان بجواب غليظ و أجابه علي ع بمثله و لم نذكر الجوابين تذمما منهما. قال الواقدي ثم إن عثمان

حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث

[8 : 260 ]

كذلك أياما ثم أتى به فوقف بين يديه فقال أبو ذر ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم

أما إنك لتبطش بي بطش جبار فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال

أخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا إنك إن تخرج

إليها تقدم على قوم أولي شبه و طعن على الأئمة و الولاة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال إلى البادية قال أبو ذر

أصير بعد الهجرة أعرابيا قال نعم قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك

هذا فلا تعدون الربذة فخرج إليها. و

روى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب

خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له أ لا تخبرني أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني

عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت دار هجرتي و أصحابي فأخرجت من المدينة إلى ما ترى ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد

علي عهد رسول الله ص إذ مر بي ع فضربني برجله و قال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت و أمي غلبتني عيني فنمت فيه قال

فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت إذا ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض الجهاد قال فكيف تصنع إذا أخرجت منها قلت أرجع إلى

المسجد قال فكيف تصنع

[8 : 261 ]

إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضربهم به فقال أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و

أطعت و أنا أسمع و أطيع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي

و اعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره. و حكى قاضي القضاة رحمه الله في المغني

عن شيخنا أبي علي رحمه الله أن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر و أن الرواية وردت بأنه قيل له أ عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل أنا

اخترت لنفسي ذلك. و روى أبو علي أيضا أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب إليه عثمان أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال

له ما أخرجك إلى الشام قال

إني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج منها فلذلك خرجت فقال أي البلاد أحب إليك بعد الشام

قال الربذة فقال صر إليها

و روى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام فذكرت

قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فقال لي معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب فقلت فيهم و فينا فكتب

معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلى أن أقدم فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني و

قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة. و نحن نقول هذه الأخبار و إن كانت قد رويت لكنها ليست في الاشتهار

[8 : 262 ]

و الكثرة كتلك الأخبار و الوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله أنه خاف الفتنة و اختلاف كلمة المسلمين فغلب

على ظنه أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب و أقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا فأخرجه مراعاة للمصلحة و مثل ذلك

يجوز للإمام هكذا يقول أصحابنا المعتزلة و هو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر

إذا ما أتت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرا

و إنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان فأما من لم يحتمل حاله التأويل و إن كانت له صحبة سالفة كمعاوية و أضرابه

فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم و أحوالهم لا وجه لتأويلها و لا تقبل العلاج و الإصلاح

[8 : 263 ]

131- و من كلام له ع

أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ

الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ هَيْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِكُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً

فِي سُلْطَان وَ لَا الْتِمَاسَ شَيْء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَ لَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَ نُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ

تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاةِ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ

يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَ

لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْم وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ

الْمَقَاطِعِ وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ

أظأركم أعطفكم ظأرت الناقة ظأرا و هي ناقة مظئورة إذا عطفتها علي ولد غيرها

[8 : 264 ]

و في المثل الطعن يظأر أي يعطف علي الصلح و ظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو يتعدى و لا يتعدى فهي ظئور. و الوعوعة

الصوت و الوعواع مثله. و قوله هيهات أن أطلع بكم سرار العدل يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم مضيئين و منورين لسرار

العدل و السرار آخر ليلة في الشهر و تكون مظلمة و يمكن عندي أن يفسر على وجه آخر و هو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور و

هي خطوط مضيئة في الجبهة و قد نص أهل اللغة على أنه يجوز سرر و سرار و قالوا و يجمع سرار على أسرة مثل حمار و أحمرة قال

عنترة

بزجاجة صفراء ذات أسرة قرنت بأزهر في الشمال مفدم

يصف الكأس و يقول إن فيها خطوطا بيضا و هي زجاج أصفر و يقولون برقت أسرة وجهه و أسارير وجهه فيكون معنى كلامه ع هيهات

أن تلمع بكم لوامع العدل و تنجلي أوضاحه و يبرق وجهه و يمكن فيه أيضا وجه آخر و هو أن ينصب سرار هاهنا على الظرفية و يكون

التقدير هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل و استخفائه فيكون قد حذف المفعول و حذفه كثير. ثم ذكر أن الحروب التي

كانت منه لم تكن طلبا للملك و لا منافسة على الدنيا و لكن لتقام حدود الله على وجهها و يجري أمر الشريعة و الرعية على ما كان

يجري عليه أيام النبوة. ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم إلى التوحيد و المعرفة و لم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله ص و هكذا

روى جمهور المحدثين و قد تقدم ذكر ذلك.

[8 : 265 ]

فإن قلت أي وجه لإدخال هذا الكلام في غضون مقصده في هذه الخطبة فإنها مبنية على ذم أصحابه و تقرير قاعدة الإمامة و أنه لا يجوز

أن يليها الفاسق و أنه لا بد للإمام من صفات مخصوصة عددها ع و كل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام قلت بل الكلام متعلق بعضه

ببعض من وجهين أحدهما أنه لما قال اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف طلبا للملك أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين

فقال أنا أول من أسلم و لم يكن الإسلام حينئذ معروفا أصلا و من يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه الله تعالى و

القربة إليه فمن تكون هذه حاله في مبدإ أمره كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا و حطامها و يجرد عليها السيف في آخر عمره و

وقت انقضاء مدة عمره. و الوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين وجب أن يكون أقرب المقربين لأنه تعالى قال وَ السّابِقُونَ

السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أ لا ترى أنه إذا قال الملك العالمون العاملون هم المختصون بنا وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به

اختصاصا و إذا كان ع أقرب المقربين وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة التي جعل كل واحد منها صادا عن الإمامة و قاطعا عن

استحقاقها و هي البخل و الجهل و الجفاء أي الغلظة العصبية في دولته أي تقديم قوم على قوم و الارتشاء في الحكم و التعطيل

للسنة و إذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن يكون هو الإمام لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق فإذا كانت موانعها عنه

منتفية و لم يحصل لغيره اجتماع الشروط و ارتفاع الموانع وجب أن يكون هو الإمام لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت

هذه القضية عقلية أو سمعية.

[8 : 266 ]

فإن قلت أ فتراه عني بهذا قوما بأعيانهم قلت الإمامية تزعم أنه رمز في الجفاء و العصبية لقوم دون قوم إلى عمر و رمز بالجهل إلى

من كان قبله و رمز بتعطيل السنة إلى عثمان و معاوية و أما نحن فنقول إنه ع لم يعن ذلك و إنما قال قولا كليا غير مخصوص و هذا

هو اللائق بشرفه ع و قول الإمامية دعوى لا دليل عليها و لا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام ما يوافق غرضه و إن غمض و لا

يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة. و النهمة الهمة الشديدة بالأمر قد نهم بكذا بالضم فهو منهوم أي مولع به

حريص عليه يقول إذا كان الإمام بخيلا كان حرصه و جشعه على أموال رعيته و من رواها نهمته بالتحريك فهي إفراط الشهوة في

الطعام و الماضي نهم بالكسر. قوله ع فيقطعهم بجفائه أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم لأن الوالي إذا كان غليظا جافيا أتعب

الرعية و قطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا من بادرته و معرته. قوله و لا الحائف للدول أي الظالم لها و الجائر عليها و الدول

جمع دولة بالضم و هي اسم المال المتداول به و يقال هذا الفيء دولة بينهم أي يتداولونه و المعنى أنه يجب أن يكون الإمام يقسم

بالسوية و لا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون قبيلة أو لإنسان من المسلمين دون غيره فيتخذ بذلك بطانة. قوله

فيقف بها دون المقاطع المقاطع جمع مقطع و هو ما ينتهي الحق إليه أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل ما أخذ من الرشوة عليها.

[8 : 267 ]

فإن قلت فما باله قال في المانع السادس فيهلك الأمة و كل واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأمة. قلت كل واحد من الموانع

الخمسة يفضي إلى هلاك بعض الأمة و أما من يعطل السنة أصلا فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها لأنه إذا عطل السنة مطلقا عادت

الجاهلية الجهلاء كما كانت. و قد روي و لا الخائف الدول بالخاء المعجمة و نصب الدول أي من يخاف دول الأيام و تقلبات الدهر

فيتخذ قوما دون قوم ظهريا و هذا معنى لا بأس به

[8 : 268 ]

132- و من خطبة له ع

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة وَ الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَة الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ

وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ

على ما أبلى أي ما أعطى يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا أي أعطاه قال زهير

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

و أما قوله و ابتلى فالابتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الاختبار كالمرض و الفقر و المصيبة و قد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار

في الخير إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر. و الباطن العالم يقال بطنت الأمر أي خبرته و تكن الصدور تستر و ما تخون العيون ما

تسترق من اللحظات و الرمزات على غير الوجه الشرعي. و النجيب المنجب و البعيث المبعوث

[8 : 269 ]

مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَ قَدْ

رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَل وَ اسْتِبْعَادَ أَجَل كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَ

أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ

بَعِيداً وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَ مَا جَمَعُوا بُوراً وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ لَا

فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ وَ لَا مِنْ سَيِّئَة يُسْتَعْتَبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ الدُّنْيَا

لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَاز وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ

قوله ع فإنه و الله الجد الضمير للأمر و الشأن الذي خاض معهم في ذكره و وعظهم بنزوله ثم أوضحه بعد إجماله فقال إنه الموت

الذي دعا فأسمع و حدا فأعجل.

[8 : 270 ]

و سواد الناس عامتهم. و من هاهنا إما بمعنى الباء أي لا يغرنك الناس بنفسك و صحتك و شبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك فتكون

متعلقة بالظاهر و إما أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك و راكنا إليها. و الإقلال الفقر و طول أمل منصوب على أنه

مفعول. فإن قلت المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر و هاهنا ليس الأمن علة طول الأمل بل طول الأمل علة الأمن قلت

كما يجوز أن يكون طول الأمل علة الأمن يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل أ لا ترى أن الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله

في البقاء و وجوه المكاسب لأجل ما عنده من الأمن و يجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول المنصوب برأيت و هو من و

يكون التقدير قد رأيت طول أمل من كان و هذا بدل الاشتمال و قد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ

الْأُخْدُودِ النّارِ.... و أعواد المنايا النعش و يتعاطى به الرجال الرجال يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء و تارة على أكتاف هؤلاء و قد

فسر ذلك بقوله حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل. و المشيد المبني بالشيد و هو الجص. البور الفاسد الهالك و قوم بور أي

هلكى قال سبحانه وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً و هو جمع واحدة بائر كحائل و حول.

[8 : 271 ]

و يستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين على اختلاف الروايتين فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله فمعناه لا يعاتبون على فعل

سيئة صدرت منهم كما كانوا في أيام حياتهم أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون و هم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة عليها و من

رواه يستعتبون بفتح حرف المضارعة فهو من استعتب فلان أي طلب أن يعتب أي يرضى تقول استعتبته فأعتبني أي استرضيته

فأرضاني. و أشعر فلان التقوى قلبه جعله كالشعار له أي يلازمه ملازمة شعار الجسد. و برز مهله و يروى بالرفع و النصب فمن رواه

بالرفع جعله فاعل برز أي من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أي فاقهم و المهل شوط الفرس و من رواه بالنصب جعل برز بمعنى

أبرز أي أظهر و أبان فنصب حينئذ على المفعولية. و اهتبلت غرة زيد أي اغتنمتها و الهبال الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره و ذئب

هبل أي محتال هبلها منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا أي اغتنموا و انتهزوا الفرصة الانتهاز الذي يصلح لهذه

الحال أي ليكن هذا الاهتبال بجد و همة عظيمة فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم. و كذا قوله و اعملوا

للجنة عملها أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنة. و دار مقام أي دار إقامة و المجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد. و الأوفاز

جمع وفز بسكون الفاء و هو العجلة و الظهور الركاب جمع ظهر و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال كما يقال

منجبون إذا كانوا أصحاب نجائب و الزيال المفارقة زايله مزايلة و زيالا أي فارقه

[8 : 272 ]

133- و من كلام له ع

وَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الآْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ وَ

قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانُ الْمُضِيئَةُ وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ

الضمير في له يرجع إلى الله تعالى و قد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة و إن لم يذكره الرضي رحمه الله و معنى انقياد الدنيا

و الآخرة له نفوذ حكمه فيهما و شياع قدرته و عمومها. و أزمتها لفظة مستعارة من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها و المقاليد المفاتيح.

و معنى سجود الأشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته و كونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها فجعل ع ذلك خضوعا منها

لمشيئته و استعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله و هو السجود و منه قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي

السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ.

[8 : 273 ]

قوله و قدحت له من قضبانها بالضم جمع قضيب و هو الغصن و المعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا و النار ضد هذا

الجسم المخصوص و هذا هو قوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعينه. و آتت أكلها أعطت ما

يؤكل منها و هو أيضا من الألفاظ القرآنية. و اليانعة الناضجة و بكلماته أي بقدرته و مشيئته و هذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على

أحد الأقسام الأربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه و هو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في معنى لم يستعملها أهل

اللغة فيه كنقل لفظة الصلاة الذي هو في أصل اللغة للدعاء إلى هيئات و أوضاع مخصوصة و لم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها و لا

يصح قول من قال المراد بذلك قوله كن لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم و قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْء إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من باب التوسع و الاستعارة المملوء منهما القرآن و المراد سرعة المؤاتاة و عجلة الإيجاد و أنه إذا أراد من أفعاله

أمرا كان

مِنْهَا وَ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ

[8 : 274 ]

يقال هو نازل بين أظهرهم و بين ظهريهم و بين ظهرانيهم بفتح النون أي نازل بينهم فإن قلت لما ذا قالت العرب بين أظهرهم و لم

تقل بين صدورهم قلت أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه و المراماة من دونه لأن النزيل إذا حامى القوم عنه استقبلوا شبا

الأسنة و أطراف السيوف عنه بصدورهم و كان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم. و لا يعيا لسانه لا يكل عييت

بالمنطق فأنا عيي على فعيل و يجوز عي الرجل في منطقه بالتشديد فهو عي على فعل

مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ وَ تَنَازُع مِنَ الْأَلْسُنِ فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِينَ بِهِ

الضمير في أرسله راجع إلى النبي ص و هو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب. و الفترة زمان انقطاع الوحي و التنازع من الألسن

أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون

[8 : 275 ]

الصنم و قوما يعبدون الشمس و قوما يعبدون الشيطان و قوما يعبدون المسيح فكل طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى

معتقدها. و قفى به الرسل أتبعها به قال سبحانه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا و منه الكلام المقفى و سميت قوافي الشعر لأن بعضها

يتبع بعضا. و العادلين به الجاعلين له عديلا أي مثلا و هو من الألفاظ القرآنية أيضا قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

مِنْهَا وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَ

الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ

شبه الدنيا و ما بعدها بما يتصوره الأعمى من الظلمة التي يتخيلها و كأنها محسوسة له و ليست بمحسوسة على الحقيقة و إنما هي

عدم الضوء كمن يطلع في جب ضيق فيتخيل ظلاما فإنه لم ير شيئا و لكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة فأما

من يرى المبصرات في الضياء فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا و هذه حال

[8 : 276 ]

الدنيا و الآخرة أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم و يظنون أنهم يبصرون شيئا و ليسوا بمبصرين على الحقيقة و لا حواسهم نافذة في

شيء و أهل الآخرة قد نفذت أبصارهم فرأوا الآخرة و لم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة و

هذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة و الحقيقة و إليه الإشارة بقوله سبحانه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها فأما قوله فالبصير

منها شاخص و الأعمى إليها شاخص فمن مستحسن التجنيس و هذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام فالشاخص الأول

الراحل و الشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح إذا فتح عينه نحو الشيء مقابلا له و جعل لا يطرف

فصل في الجناس و أنواعه

و اعلم أن الجناس على سبعة أضرب أولها الجناس التام كهذا اللفظ و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها و في وزنها

قالوا و لم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد و هو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَة. و عندي

أن هذا ليس بتجنيس أصلا و قد ذكرته في كتابي المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر و قلت إن الساعة في الموضعين بمعنى

واحد و التجنيس أن يتفق اللفظ و يختلف المعنى و لا يكون أحدهما حقيقة و الآخر مجازا بل يكونان حقيقتين و إن

[8 : 277 ]

زمان القيامة و إن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر و لا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظ

الساعة على أحد الموضعين حقيقة و على الآخر مجازا و ذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس كما لو قلت ركبت حمارا و لقيت حمارا و

أردت بالثاني البليد. و أيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ الأولى خاصة من زمان البعث فيكون لفظ الساعة

مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس و عن مشابهة التجنيس بالكلية. قالوا و ورد في السنة من التجنيس

التام خبر واحد و

هو قوله ص لقوم من الصحابة كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته خلوا بين جرير و الجرير

فالجرير الثاني الحبل. و جاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله

فأصبحت غرر الإسلام مشرقة بالنصر تضحك عن أيامك الغرر

فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه و الغرر الثانية من غرة الشيء و هي أكرمه و كذلك قوله

من القوم جعد أبيض الوجه و الندى و ليس بنان يجتدى منه بالجعد

فالجعد الأول السيد و الثاني ضد السبط و هو من صفات البخيل. و كذلك قوله

بكل فتى ضرب يعرض للقنا محيا محلى حلية الطعن و الضرب

[8 : 278 ]

فالضرب الأول الرجل الخفيف و الثاني مصدر ضرب. و كذلك قوله

عداك حر الثغور المستضامة عن برد الثغور و عن سلسالها الحصب

فأحدهما جمع ثغر و هو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب و الثاني للأسنان. و من هذه القصيدة

كم أحرزت قضب الهندي مصلته تهتز من قضب تهتز في كثب

بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت أحق بالبيض أبدانا من الحجب

و قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس و أطنبوا و عندي أنه ليس بتجنيس أصلا لأن تسمية السيوف قضبا و تسمية الأغصان

قضبا كله بمعنى واحد و هو القطع فلا تجنيس إذا و كذلك البيض للسيوف و البيض للنساء كله بمعنى البياض فبطل معنى التجنيس و

أظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر. قالوا و من هذا القسم قوله أيضا

إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا صدور العوالي في صدور الكتائب

و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد و هو جزء الشيء المتقدم البارز عن سائره فأما قوله أيضا

عامي و عام العيس بين وديقة مسجورة و تنوفة صيخود

[8 : 279 ]

حتى أغادر كل يوم بالفلا للطير عيدا من بنات العيد

فإنه من التجنيس التام لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد و العيد الثاني فحل من فحول

الإبل. و نحو هذا قول أبي نواس

عباس عباس إذا احتدم الوغى و الفضل فضل و الربيع ربيع

و قول البحتري

إذا العين راحت و هي عين على الهوى فليس بسر ما تسر الأضالع

فالعين الثانية الجاسوس و الأولى العين المبصرة و للغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها

لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا و نحن في حفر الأجداث أحيانا

و قال في أثنائها

تقول أنت امرؤ جاف مغالطة فقلت لا هومت أجفان أجفانا

و قال في مديحها

لم يبق غيرك إنسان يلاذ به فلا برحت لعين الدهر إنسانا

و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الأعجاز على الصدور ذكر أنه خارج عن باب التجنيس قال مثل قول الشاعر

و نشري بجميل الصنع ذكرا طيب النشر

و نفري بسيوف الهند من أسرف في النفر

السابق

التالي