السابق

التالي

[8 : 191 ]

بنهر الأتراك فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه فطمع فيهم فقصد نحوهم و صعد جماعة من أصحابه سور المدينة و

عليه فريق من الزنج فقتلوا من أصابوا هناك و نذر الناجم بهم فأنجدهم بقواد من قواده فأرسل أبو العباس إلى أبيه يستمده فوافى

من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان فقوى بهم عسكر أبي العباس. و قد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في

نهر الأتراك صعد في جمع كثير من الزنج ثم استدبر أصحاب أبي العباس و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة فخرج

عليهم من ورائهم و خفقت طبولهم فانكشف أصحاب أبي العباس و حملت الزنج عليهم من أمامهم فأصيب في هذه الوقعة جماعة من

غلمان أبي أحمد و قواده و صار في أيدي الزنج عدة أعلام و مطارد و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما فأطمعت هذه

الوقعة الزنج و أتباعهم و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع و أمر بالاستعداد و التأهب فلما تهيأ له ذلك عبر

في آخر ذي الحجة من سنة سبع و ستين في أكثف جمع و أكمل عدة و فرق قواده على أقطار مدينة الناجم و قصد هو بنفسه ركنا من

أركانها و قد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني و كنفه بعلي بن أبان و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و

حفه بالمجانيق و العرادات و القسي الناوكية و أعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه

الناشبة و الرامحة و السودان بالدنو من هذا

[8 : 192 ]

الركن و بينه و بينهم النهر المعروف بنهر الأتراك و هو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم و حرضوا على

العبور فعبروه سباحة و الزنج ترميهم بالمجانيق و العرادات و المقاليع و الحجارة عن الأيدي و السهام عن قسي اليد و قسي الرجل

و صنوف الآلات التي يرمى عنها فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور و لم يكن لحقهم من الفعلة من كان

أعده لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح و يسر الله تعالى ذلك و سهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه و

حضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك فعلوا الركن و نصبوا عليه علما عليه مكتوب الموفق بالله و أكبت عليهم الزنج

فحاربوا أشد حرب و قتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود رمي بسهم في بطنه فمات و كان من جلة القواد و أحرق

أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات و العرادات. و قصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من

النهر المعروف بمنكى فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه و هزمه و قتل قوما من أصحابه و أفلت علي بن

أبان المهلبي راجعا و انتهى أبو العباس إلى نهر منكى و هو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل فوصل إلى الخندق فوجده عريضا

منيعا فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه و عبرته الرجالة سباحة و وافوا السور فثلموا منه ثلمة و اتسع لهم دخولها فدخلوا فلقي

أولهم سليمان بن جامع و قد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية فحاربوه و كشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان و هو نهر

سيق بالمدينة و صارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم فأحرقوا ما كان فيها و هدموها. فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان

وقوفا طويلا و دافعوا مدافعة شديدة و شد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره فحل على المئزر و

نبذه إلى الغلام و نجا بعد أن أشرف على الهلكة و حمل أصحاب أبي أحمد على الزنج فكشفوهم

[8 : 193 ]

عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة و ركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا

عليه و كشفوا من كان معه حتى أفرد و قرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه و كان ذلك وقت غروب الشمس و حجز

الليل بينهم و بينه و أظلم و هبت ريح شمال عاصف و قوي الجزر فلصق أكثر سفن الموفق بالطين و حرض الناجم أصحابه فثاب منهم

جمع كثير فشدوا على سفن الموفق فنالوا منها نيلا و قتلوا نفرا و صمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي فأوقع به و قتل

جماعة من أصحابه و أسر أسرى و صار في يده دواب من دوابهم فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق و قد كان هرب في هذا اليوم كثير

من قواد صاحب الزنج و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير و عبادان و غيرهما و كان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان بن

موسى الشعراني و محمد و عيسى فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق و ما نيل منهم فرجعا و هرب جماعة

من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم و صاروا إلى البصرة و بعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد فأمنهم و وجه إليهم السفن و

حملهم إلى الموفقية و خلع عليهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال. و كان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان

بن صالح المغربي و كانت له رئاسة و قيادة و كان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه و لجماعة من

أصحابه فأجيب إلى ذلك و أنفذ إليه عدد كثير من الشذا و السميريات و المعابر مع لزيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس فسلك نهر

اليهودي إلى آخره فألفى به ريحان القائد و من كان معه من أصحابه و قد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع فسار لزيرك

به و بهم إلى دار الموفق فأمر لريحان بخلع جليلة

[8 : 194 ]

و حمل على عدة أفراس ب آلتها و حليتها و أجيز بجائزة سنية و خلع على أصحابه و أجيزوا على أقدارهم و مراتبهم و ضم ريحان إلى

أبي العباس و أمر بحمله و حمل أصحابه و المصير بهم إلى إزاء دار الناجم فوقفوا هنالك في الشذا عليهم الخلع الملونة بصنوف

الألوان و الذهب حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه و من غيرهم جماعة

فألحقوا في البر و الإحسان بأصحابهم. ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان و ستين و مائتين و

كان أحد ثقات الناجم ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بريحان و حمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم حتى يراه أصحابه

و كلمهم و أخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم و أعلمهم ما وقف عليه من كذبه و فجوره فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير من قواد

الزنج و غيرهم و تتابع الناس في طلب الأمان و أقام أبو أحمد يجم أصحابه و يداوي جراحهم و لا يحارب و لا يعبر إلى الزنج إلى

شهر ربيع الآخر. ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة و أمرهم بهدم سور المدينة

و تقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم و لا يدخلوا المدينة و وكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة و

أمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة و اقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من

جميع تلك الثلم و هزموا من كان عليها من الزنج و أوغلوا في طلبهم و اختلف بهم طرق المدينة و تفرقت بهم السكك و الفجاج

[8 : 195 ]

و انتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها فتراجعت إليهم الزنج و خرج عليهم كمناؤهم من نواح

يهتدون إليها و لا يعرفها جيش أبي أحمد فتحير جيش أبي أحمد فقتل منهم خلق كثير و أصاب الزنج منهم أسلحة و أسلابا و أقام

ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد يدافعون عن الناس و يحمونهم حتى خلص إلى السفن من خلص و قتلت الديالمة عن آخرها و عظم

على الناس ما أصابهم في هذا اليوم و انصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده و عذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره و

الإفساد عليه في رأيه و تدبيره و توعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك و أمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم فأقر

ما كان جاريا لهم على أولادهم و أهاليهم فحسن موقع ذلك و زاد في صحة نيات أصحابه لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في

طاعته. قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات و قد كان يجلب إليهم من السمك الشيء

العظيم من مواضع كثيرة فمنع ذلك عنهم و قتل القوم الذين كانوا يجلبونه و أخذت عليهم الطرق و انسد عليهم كل مسلك كان لهم

و أضر بهم الحصار و أضعف أبدانهم و طالت المدة فكان الأسير منهم يؤسر و المستأمن يستأمن فيسأل عن عهده بالخبز فيقول مذ

سنة أو سنتين و احتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت و

كثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم فمن كان منهم ذا قوة

و جلد و نهوض بالسلاح من عليه و أحسن إليه و خلطه بغلمانه السودان و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان و من كان منهم

ضعيفا لا حراك به أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح أو مجروحا جراحة قد أزمنته أمر بأن يكسى ثوبين و يوصل بدارهم و يزود و

يحمل إلى عسكر

[8 : 196 ]

الناجم فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه و أن ذلك رأيه في جميع من يأتيه

مستأمنا أو يأسره فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج حتى استشعروا الميل إلى ناحيته و الدخول في سلمه و طاعته. قال أبو

جعفر ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد و جرح أبو العباس و ذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات و

أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال و كان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا و كان كثير الخروج في السميريات الخفاف

فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها و استولى على أهلها و أدخلها النهر الذي خرج منه

فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك فأقطعوه و أوقعوا به فوقع التحرز حينئذ

منه و الاستعداد لغاراته فركب شذاة و شبهها بشذوات أبي أحمد و نصب عليها علما مثل أعلامه و سار بها و معه كثير من الزنج فأوقع

بكثير من أصحاب أبي أحمد و قتل و أسر فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف فكانت بينهما وقعة شديدة و رمي فيها أبو

العباس بسهم فأصابه و أصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه

فحملوه و رجعوا به إلى عسكر الناجم فلم يصلوا به إلا و هو ميت فعظمت الفجيعة به على الناجم و أوليائه و اشتد عليه جزعهم و

خفي موته على أبي أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين فأخبره بذلك فسر و أمر بإحضار الغلام الذي طعنه فوصله و كساه و

طوقه و زاد في رزقه و أمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات و خلع و عولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ و أقام أبو أحمد

في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج محاصرا لهم

[8 : 197 ]

بسد الأنهار و سكرها و اعترض من يخرج منهم لجلب الميرة و منتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة و انقضت سنة ثمان و ستين.

و نقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة و أعمالها فولي الموصل و الجزيرة و ديار ربيعة و ديار مضر. و دخلت سنة تسع و ستين و أبو

أحمد مقيم على الحصار فلما أمن على أبي العباس و ركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم. قال أبو جعفر و قد كان بهبوذ لما

هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها و وفورها و صح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا و من الجواهر و غيرها بمثل ذلك فطلب المال

المذكور بكل حيلة و حبس أولياء بهبوذ و قرابته و أصحابه و ضربهم بالسياط و أثار دورا من دوره و هدم أبنية من أبنيته طمعا في أن

يجد في شيء منها دفينا فلم يجد من ذلك شيئا فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد في

صحبته فاستأمن منهم إلى أبي أحمد خلق كثير فوصلهم و خلع عليهم و رأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي

فيجعل لنفسه هناك معسكرا و يبني به مدينة أخرى و يضيق خناق الناجم و يتمكن من مغاداته و مراوحته بالحرب فقد كانت الريح

العاصف تحول بينه و بين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك و إصلاح موضع

يتخذه معسكرا و أن يحف بالخنادق و يحصر بالسور ليأمن بيات الزنج و جعل على قواده نوانب لذلك و معهم الفعلة و الرجال فقابل

الناجم ذلك بأن جعل علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب و المدافعة عن ذلك و كان

أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا و ضم

[8 : 198 ]

إليه سليمان بن موسى بن الشعراني و قد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره

صعب أمره و قرب على من يريد اللحاق به من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه بمجاورته من الرعب و الرهبة و في ذلك

انتقاض تدبيره و فساد جميع أموره فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد و قواد الناجم متصلة على إصلاح هذا الموضع و مدافعة الزنج

عنه. و اتفق أن عصفت الرياح يوما و جماعة من قواد أبي أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه فانتهز الناجم الفرصة في امتناع

العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه و كاثرهم برجله فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا إلى الوقوف

بحيث كانت واقفة به لحمل الرياح إياها على الحجارة و خوف أصحابها عليها من التكسر و لم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة

لشدة الريح و اضطراب الأمواج فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية فاشتد جزع أبي أحمد

و أصحابه لما نالهم. و لما تهيأ للزنج عليهم و عظم بذلك اهتمامهم و تعقب أبو أحمد الرأي فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربي

مجاور مدينة الناجم خطأ و أنه لا يؤمن منه حيلة و انتهاز فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة لكثرة

الأدغال في ذلك الموضع و صعوبة المسالك و أن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر و هو عليهم أسهل من

أصحابه فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي و صرف همه و قصده

[8 : 199 ]

إلى هدم سور مدينة الناجم و توسعة الطريق و المسالك لأصحابه في دخولها فندب القواد لذلك و ندب الناجم قواده للمدافعة عنها و

طال الأمد و تمادت الأيام. فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم على المنع من هدم السور أزمع على مباشرة ذلك بنفسه و

حضوره إياه ليستدعي بذلك جد أصحابه و اجتهادهم و يزيد في عنايتهم و هممهم فحضر بنفسه و اتصلت الحرب و غلظت على

الفريقين و كثر القتل و الجراح في الحزبين و أقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب و يراوحهم فكانوا لا يفترون يوما من الأيام

و صعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه و اشتدت حماية الزنج عن مدينتهم و باشر الناجم الحرب بنفسه و معه نخبة

أصحابه و أبطالهم و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم أو

الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه و يقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم فيدخل الخلل عليهم. و

اتفق في بعض الأيام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض فما يكاد الرجل يبصر صاحبه و ظهر أصحاب أبي أحمد و لاحت تباشير الفتح

و دخل الجند إلى المدينة و ولجوها و ملكوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلك حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد رماه به

رومي كان مع الناجم يقال له قرطاس فأصابه في صدره و ذلك لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع و ستين و مائتين فستر أبو

أحمد و خواصه ما ناله من ذلك عن الناس و انصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا فعولج في ليلته تلك و شدت الجراحة و غدا على

الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن أو ضعف فزاد في قوة علته بما حمل على نفسه من الحركة

فغلظت و عظم أمرها حتى خيف عليه العطب و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح و اضطرب لذلك

[8 : 200 ]

العسكر و الجند و الرعية و خافوا قوة الزنج عليهم حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم

من الرهبة. قال أبو جعفر و حدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته حادثة في سلطانه و أمور متعلقة بما بينه و بين أخيه المعتمد

فأشار عليه مشيرون من أصحابه و ثقاته بالرحلة عن معسكره إلى بغداد و أن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك و حاذر أن يكون فيه

تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج فأقام على صعوبة علته و غلظ الأمر الحادث في سلطانه و صبر إلى أن عوفي فظهر لقواده و

خاصته و قد كان أطال الاحتجاب عنهم فقويت برؤيته منتهم و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة فلما أبل و قوي على

الركوب و النهوض نهض و عاود ما كان مواظبا عليه من الحرب و جعل الناجم لما صح عنده الخبر بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه

العدات و يمنيهم الأماني و اشتدت شوكتهم و قويت آمالهم فلما اتصل به ظهور أبي أحمد جعل يحلف للزنج على منبره أن ذلك

باطل لا أصل له و أن الذي رأوه في الشذا مثال موه و شبه عليهم. قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه أن أخاه

المعتمد و هو الخليفة يومئذ فارق دار ملكه و مستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه زاعما أنه مستبد بأموال المملكة و جبايتها

مضطهدا له مستأثرا عليه فكاتب ابن طولون صاحب مصر و سأله أن يأذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك فخرج من

سامراء في جماعة من قواده و مواليه قاصدا مصر و كان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى و إنما المعتمد صورة

[8 : 201 ]

خالية من معاني الخلافة لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب و يقود القواد و يقطع

الأقطاع و لا يراجع المعتمد في شيء من الأمور أصلا فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء و قصده ابن طولون فكاتب

إسحاق بن كنداحيق و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة فأمره أن يعترض المعتمد و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه و

يعيدهم إلى سامراء و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد و الموالي بأجمعهم فاعترضهم إسحاق و قد قربوا من الرقة فأخذهم و

قبض عليهم و قيدهم بالقيود الثقيلة و دخل على المعتمد فعنفه و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه و مفارقة أخيه

على الحال التي هو بها و حرب من يحاول قتله و قتل أهل بيته و زوال ملكهم. ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء فأقر

المعتمد على خلافته و منعه عن الخروج و أرسل أبو أحمد ابنه هارون و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن

كنداحيق خلعا جليلة و قلد بسيفين من ذهب و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود

و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة و شيعه

إلى منزله هارون و صاعد و قعدا على طعامه كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد

و قوة نفسه و شدة شكيمته أن يكون بإزاء ذلك العدو و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ثم يصاب ولده بسهم و يصاب هو بسهم

آخر في صدره يشارف منه على الموت و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه و لا تضعف قوته و

بحق

[8 : 202 ]

ما سمي المنصور الثاني و لو لا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة. قال

أبو جعفر ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة و جد الناجم في إعداد المقاتلة و المحاطة عن سوره و مدينته فكانت بين

الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب و المجانيق و العرادات

و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا و إلباسها جلود الجواميس و تغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير و الأدوية

التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك و حورب صاحب الزنج من تحتها فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا و استأمن إلى أبي

أحمد محمد بن سمعان كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته و انتدب أبو العباس

لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي و كانت بإزاء دار الناجم و شرع في الحيلة في إحراقها و أحرق الموفق كثيرا من الرواشين

المظلة على سور المدينة و شعثها و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها و أضرموا النار فيها و فعل أبو العباس

بدار الكرنبائي مثل ذلك و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة أشفى منها على التلف و اتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق

أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب فصعب ذلك على أبي أحمد و قوي بغرقه أمر

الزنج و انصرف أبو أحمد

[8 : 203 ]

آخر نهار هذا اليوم و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج إلى أن استبل من

علته. قال أبو جعفر فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة فأمسك فيها عن الحرب

انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب و الأدغال و

الأحطاب فيه و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته و من بقي في

نصرته من الزنج و هم حدود عشرين ألف مقاتل و انقطعت الميرة عنهم و بان للناس ضعف أمرهم فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم

فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون

الناس فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه

ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم و كان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس و إذا تطاول حبسه أطلقه. و لما

أبل الموفق من علته و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه كما

فعل بالجانب الغربي ليتمكن من قتله أو أسره فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق و توسيع

المسالك و إحراق الأسوار المبنية و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب

شديدة و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد و أمر الزنج يزداد ضعفا

[8 : 204 ]

و طالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره فوجه يطلب الأمان من أبي

أحمد فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط. ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد

استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج و أمر بتوجيه الشذا إلى

موضع وقع الميعاد عليه فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس فحملهم إلى أبي

أحمد فخلع على سليمان و من معه و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية و وصله بمال جليل و

وصل أصحابه و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم ليزدادوا ثقة بأمانته فلم تبرح

الشذا ذلك اليوم من موضعها حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم في الحباء و البر و الخلع و الجوائز

فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب فوهى أمره و

ضعف و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم و هو من قوادهم المشهورين فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول

شبل بن سالم يطلب الأمان و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه

فأجيب إلى سؤاله و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده و جماعة من قواده فصاروا إلى أبي أحمد فوصله بصلة جليلة و خلع عليه خلعا

كثيرة و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم و أرسله في الشذوات فوقفوا بحيث

يراهم الناجم و أصحابه نهارا فعظم ذلك عليه و على أوليائه و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به

عسكر الناجم و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو و لا يعرفها أصحاب أبي أحمد ففعل

[8 : 205 ]

و كبس عسكر الناجم سحرا فأوقع بهم و هم غارون فقتل منهم مقتلة عظيمة و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق و

ذعر الزنج من شبل و ما فعله فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة و لا تزال النفرة تقع في

عسكرهم لما استشعروا من الخوف و وصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية. و صح عزم

الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما و أمر بإحضار قواد المستأمنة و

وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم

و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان

و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة و أن ما كان منه من ذلك

يوجب عليهم حقه و طاعته و أنهم لن يأتوا بشيء يتعرضون به لطاعة ربهم و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة

الناجم و أصحابه و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته و المعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من

غيرهم فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم و يجهدوا على الولوج إلى الناجم و التوغل إليه في حصونه حتى يمكنهم الله منه و من

أشياعه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله و تصغير منزلته و وضع مرتبته.

فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه و بما هم عليه من صحة الضمائر من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة

عدوه و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم و دلهم على ثقته بهم و إحلاله إياهم

[8 : 206 ]

محل أوليائه و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره ليظهر من حسن جهادهم بين يديه و خلوص نياتهم في الحرب و

نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم. فأجابهم إلى ذلك و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم

فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد. قال أبو جعفر ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه و دخل إلى

عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب في خمسين ألف مقاتل من البر و البحر فرسانا و رجالة يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن و

لهم ضجيج و أصوات هائلة فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين. و

اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا و صبر أصحاب أبي أحمد و

صدقوا القتال فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج و قتل منهم خلق عظيم و أسر منهم أسرى كثيرة فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى

في المعركة و قصد بنفسه دار الناجم فوافاها و قد لجأ الناجم إليها و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه. فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و

تفرقوا عنها و دخلها غلمان الموفق و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث فأخذوه و انتهبوه و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث و

تخلص الناجم بنفسه و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره و حمل أولاده و

نساؤه إلى الموفقية في التوكيل و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج و تشاغل أصحاب أبي أحمد

بنهب

[8 : 207 ]

الأموال من دور الزنج فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم فخرجوا عليهم من عدة مواضع و

خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم فكشفوهم و اتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم

جماعة و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع. ثم تراجع الناس و دامت الحرب إلى وقت العصر فرأى أبو أحمد عند ذلك

أن يصرف أصحابه فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم و أحجم الزنج عن أتباعهم و

عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم. قال أبو جعفر و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف

و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم فأمر أبو أحمد

لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق و المضايق فكانت بين لؤلؤ و

بين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة استظهر فيها لؤلؤ عليهم و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه و صبرهم

على ألم الجراح و ثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه. قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبعين و مائتين تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد

من سائر الجهات فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة من كور الأهواز و نواحيها و قدم بعده من أهل البحرين جمع

كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل يقودهم رجل من عبد القيس و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس و رئيسهم شيخ من المطوعة

يكنى أبا سلمة و كان أبو أحمد يجلس لكل من يرد و يخلع عليه و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات فعظم جيشه جدا

و امتلأت بهم الأرض و صح

[8 : 208 ]

عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره فرتب جيوشه و قسمهم على القواد و أمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر

الناجم عينها له و ركب بنفسه و ركب جيشه و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا

فكانت بينهم وقعة شديدة منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج فولوا منهزمين فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون فقتل

منهم كثير و غرق كثير و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله فاحتووا

عليها و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع و الهمداني و

جماعة من أكابر القواد عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره في النهر المعروف بالسفياني

فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر لأن أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول و فقده أصحابه فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم و

عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر فاقتحمه لؤلؤ بفرسه و عبر أصحاب لؤلؤ

خلفه. و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر و مضى الناجم هاربا و لؤلؤ يتبعه في أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف

بالقربري فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور و لؤلؤ و أصحابه

يطردونهم من ورائهم حتى ألجئوهم إلى نهر آخر فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها فأرسل إليه

الموفق ينهاه عن اقتحامها و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل دون أصحاب الموفق

فانصرف لؤلؤ محمود الفعل فحمله الموفق معه في شذاته و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم

حسبما كان مستحقا له و لهذا نادى

[8 : 209 ]

أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا كان الفتح للؤلؤ. قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا

اليوم قواده و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إياه و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم فعنقهم و عذلهم و

وبخهم على ما كان منهم و عجزهم و أغلظ لهم فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب

الناجم و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه. ثم تحالفوا بين يديه و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج حتى

يظفرهم الله تعالى به فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم و بينه و سألوا الموفق

أن يرد السفن إلى الموفقية بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها و العبور فيها. فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير

عن تنصلهم و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره و ذلك في يوم السبت

لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين و مائتين و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به و

أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر و هم مغيظون محنقون من التقريع و

التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة أزالوهم عن مواقفهم فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض و اتبعهم

الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم و انقطع

[8 : 210 ]

الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم

افترقا في الهزيمة فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج فقتل جماعة من كماته و ظفر

به فأسر و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد فاستبشر الناس بأسر سليمان و كثر التكبير و الضجيج و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر

أصحابه غناء و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار

و هو من قدماء قواد الناجم فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق

في طلب الناجم و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره. فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق فوافاه بشير

آخر و معه كف زعم أنها كفه فقوي الخبر عنده بعض القوة فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض و معه رأس الناجم فوضعه بين

يديه فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه فخر ساجدا و سجد ابنه

أبو العباس و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه

فرآه الناس و ارتفعت الأصوات و الضجيج. قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي

فلما علما أنهما مقتولان افترقا فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام و معه جماعة من غلمان لؤلؤ فمانع عن نفسه بسيفه حتى

عجز عن الممانعة فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف

[8 : 211 ]

بنهر الأمير فقذف بنفسه يروم النجاة و قبل ذلك كان ابن الناجم و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه و مضى يؤم النهر المعروف

بالديناري متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم و دل الموفق عليهما بعد ذلك. و قيل له إن معهما جمعا من الزنج و

جماعة من جلة قوادهم فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم و أعطوا

بأيديهم فظفر بهم الغلمان و حملوهم إلى الموفق فقتل منهم جماعة و أمر بالاستيثاق من المهلبي و أنكلاني بالحديد و الرجال

الموكلين بهما. قال أبو جعفر و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب و رأس

الناجم منصوب بين يديه على قناة في شذاة يخترق به في النهر و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة فخرج إليها و

الرأس بين يديه و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه حتى وافى قصره بالموفقية هذه رواية أبي

جعفر و أكثر الناس عليهما. و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي فسلمه إلى ابنه

أبي العباس و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك. و الرواية الأولى هي الصحيحة و الذي جعل

كردناجا هو قرطاس الذي رمى أبا أحمد

[8 : 212 ]

بالسهم ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب

ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود. قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي العباس في

الحرب إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به. قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا.

قال أبو جعفر ثم تتابع مجيء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم

و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم كي لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الإسلام و أهله و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت

نحو البر فمات أكثرها عطشا و ظفر الأعراب بمن سلم منهم فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية بعد قتل الناجم مدة ليزداد الناس

بمقامه أنسا و أمانا و يتراجع أهل البلاد إليها فقد كان الناجم أجلاهم عنها و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد و معه رأس الناجم

فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى من هذه السنة و رأس الناجم بين يديه على قناة و الناس مجتمعون

يشاهدونه. و قد روى غير أبي جعفر و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر عن العلاء بن صاعد بن مخلد قال لما حمل رأس صاحب

الزنج و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش

[8 : 213 ]

لم ير مثله و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم الله معاوية و زاد

حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا

الوقت و الله لقد بلغ أبي إلى الموت و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم و

حصنا حرمهم و أولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب و

حمزة و جعفر و الحسن و الحسين و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ثم أمر بجمع النفاطين

ليحرق الناحية فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم و لم

أزل أداريه و أرفق به حتى سار. فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد و نزل بالمدائن و أن الموفق أرسل إليه

من بغداد عسكرا و أصحبهم دنان النبيذ و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء و يتركوا خيامهم و أثقالهم لينتهبها الزنج

و أنهم فعلوا ذلك فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان و كانت كثيرة جدا فشربوا تلك الليلة و سكروا و باتوا على غرة

فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى فأصاب منهم ما أراد فباطل موضوع لا أصل له و الذي بيتهم و هم سكارى فنال منهم نيلا

تكين البخاري و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس و ستين و مائتين و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل

النبيذ فيهم و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية هكذا رواه الناس كلهم. قال أبو جعفر فأما علي بن أبان و

أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما فإنهم

[8 : 214 ]

حملوا إلى بغداد في الحديد و القد فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي فكانوا كذلك

إلى شوال من سنة اثنتين و سبعين و مائتين فكانت للزنج حركة بواسط و صاحوا أنكلاني يا منصور و كان الموفق يومئذ بواسط

فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه فدخل فتح السعيدي إليهم

فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم و علي بن أبان المهلبي و سليمان

بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها و وجه برءوسهم إلى

الموفق فنصبها بواسط و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم. ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة

فأمر بصلبهم بحضرة الجسر فأخرجوا من البالوعة و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم و تقشرت جلودهم فصلب اثنان منهم على جانب

الجسر الشرقي و ثلاثة على الجانب الغربي و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر و هو أمير

بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته و قد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما فمن أراد ذلك

فليأخذه من مظانه

[8 : 215 ]

مِنْهَا فِي وَصْفِ الْأَتْرَاكِ كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ وَ يَكُونُ

هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْب لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ

عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا

تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ الآْيَةَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيح أَوْ جَمِيل وَ سَخِيّ أَوْ

بَخِيل وَ شَقِيّ أَوْ سَعِيد وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ حَطَباً أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَ مَا سِوَى ذَلِكَ

فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي

[8 : 216 ]

المجان جمع مجن بكسر الميم و هو الترس و إنما سمي مجنا لأنه يستتر به و الجنة السترة و الجمع جنن يقال استجن بجنة أي

استتر بسترة. و المطرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا يقال جاءت الإبل

مطاريق أي يتلو بعضها بعضا و النعل المطرقة المخصوفة و أطرقت بالجلد و العصب أي ألبست و ترس مطرق و طراق النعل ما

أطرقت و خرزت به و ريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض و طارق الرجل بين الثوبين إذا لبس أحدهما علي الآخر و كل هذا يرجع إلى

مفهوم واحد و هو مظاهرة الشيء بعضه بعضا و يروى المجان المطرقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة. و

السرق شقق الحرير و قيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة. و يعتقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها و

استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى قال ابن الزبعري

حيث ألقت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل

و المفلت الهارب. يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه و لم يطلع عليه أحدا من خلقه و هي

الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا

تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ

[8 : 217 ]

و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه و هو ما عدا هذه الخمسة و الإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك. و

تضطم عليه جوانحي تفتعل من الضم و هو الجمع أي يجتمع عليه جوانح صدري و يروى جوارحي و

قد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك كم بقي من عمري فرفعت يدك اليمنى و فتحت

أصابعها في وجهي مشيرا إلي فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام فقال و لا واحدة منهن بل ذاك إشارة إلى الغيوب

الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ الآية

فإن قلت لم ضحك ع لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب و هل هذا إلا زهو في النفس و عجب بالحال قلت قد روي أن رسول الله

ص ضحك في مناسب هذه الحال لما استسقى فسقي و أشرف درور المطر فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم

فدعا و أشار بيده إلى السحاب فانجاب حول المدينة كالإكليل و هو ع يخطب على المنبر فضحك حتى بدت نواجده و قال أشهد أني

رسول الله و سر هذا الأمر أن النبي أو الولي إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه أو عرف الناس وجاهته عند الله فلا بد أن يسر بذلك و

قد يحدث الضحك من السرور و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه و العجب و كان محض السرور و الابتهاج و قد قال تعالى في صفة

أوليائه فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإن قلت فإن من جمله الخمسة وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً و قد أعلم

[8 : 218 ]

الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده نحو قوله ستفتح مكة و أعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده نحو قوله له ستقاتل بعدي

الناكثين الخبر. قلت المراد بالآية أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما

يكسبه في مستقبل زمانه

فصل في ذكر جنكزخان و فتنة التتر

و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه قد رأيناه نحن عيانا و وقع في زماننا و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء

و القدر إلى عصرنا و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق و الشام و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق و

ببلاد ما وراء النهر و بخراسان و ما والاها من بلاد العجم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله فإن بابك

الخرمي لم تكن نكايته و إن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان و هؤلاء دوخوا المشرق كله و تعدت

نكايتهم إلى بلاد أرمينية و إلى الشام و وردت خيلهم إلى العراق و بخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس و قتل من

كان بالشام من بني إسرائيل و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخربها هؤلاء و إلى

الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم

[8 : 219 ]

و نحن نذكر طرفا من أخبارهم و ابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ و بالكتب المتضمنة

أصناف الأمم لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا و لكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من القفجاق و اليمك و البرلو و التفريه و اليتبه و الروس و

الخطا و القرغز و التركمان و لم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد و هو كتاب مروج الذهب للمسعودي فإنه ذكرهم

هكذا بهذا اللفظ التتر و الناس اليوم يقولون التتار بألف و هذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق في جبال طمغاج من حدود الصين

و بينهم و بين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر و قد كان خوارزمشاه و هو محمد بن تكش استولى على بلاد

ما وراء النهر و قتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى و سمرقند و بلاد تركستان نحو كاشغر و بلاساغون و أفناهم و كانوا حجابا

بينه و بين هذه الأمة و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده و كان في ذلك غالطا لأن ملوك الخطا كانوا وقاية له و مجنا من هؤلاء فلما

أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم فأساء قواده و أمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم و سدوا طرق التجارة عنهم

فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون و خرجوا إلى بلاد تركستان فأوقعوا بقواد

خوارزمشاه و عماله هناك و ملكوا البلاد و تراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه و سلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه فأغضى على

ذلك و رأى أن سعة ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه و أن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك و ترك بلاد تركستان لهم و استقر

الأمر على أن تركستان لهم و ما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند و بخارى و غيرهما لخوارزمشاه فمكثوا كذلك نحو أربع سنين.

[8 : 220 ]

ثم إن المعروف بجنكزخان و الناس يلفظونه بالراء و ذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر أنه جنكز بالزاي المعجمة عن له

رأي في النهوض إلى بلاد تركستان و ذلك أن جنكزخان هذا هو رئيس التتار الأقصين في المشرق و ابن رئيسهم و ما زال سلفه رؤساء

تلك الجهة و كان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب و إنما عن له هذا الرأي لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم و إنما يقوم

بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها غار من ذلك و أراد الرئاسة العامة لنفسه و أحب

الملك و طمع في البلاد فنهض بمن معه من أقاصي الصين حتى صار إلى حدود أعمال تركستان فحاربه التتار الذين هناك و منعوه عن

تطرق البلاد فلم يكن لهم به طاقة و هزمهم و قتل كثيرا منهم و ملك بلاد تركستان بأجمعها و صار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه و إن

كان بينهما مسافة بعيدة و صار بينه و بين خوارزمشاه سلم و مهادنة إلا أنها هدنة على دخن. فمكثت الحال على ذلك يسيرا ثم فسدت

بما كان يصل إلى خوارزمشاه على ألسنة التجار من الأخبار و أن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما يليها و أنه في التأهب و

الاستعداد فلو داراه لكان أولى له لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم فتعذرت عليهم الكسوات و منع عنهم الميرة و

الأقوات التي تجلب و تحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان فلو اقتنع بذلك لكان قريبا لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة

المعروفة بأوتران و هي آخر ولايته بما وراء النهر أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار و معهم شيء عظيم من الفضة إلى

سمرقند ليشتروا له و لأهله و بني عمه كسوة و ثيابا و غير ذلك.

[8 : 221 ]

فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار و أخذ ما معهم من الفضة و إنفاذها إليه فقتلهم و سير إليه الفضة و كان ذلك شيئا

كثيرا جدا ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند و بخارى و أخذ ثمنه منهم لنفسه ثم علم أنه قد أخطأ فأرسل إلى نائبه بأوتران يأمره

أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم ليخبروه بعدتهم فمضت الجواسيس و سلكت مفاوز و جبالا كثيرة و عادوا إليه بعد مدة فأخبروه

بكثرة عددهم و أنهم لا يبلغهم الإحصاء و لا يدركهم و أنهم من أصبر الناس على القتال لا يعرفون الفرار و يعملون ما يحتاجون إليه

من السلاح بأيديهم و أن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير بل تأكل نبات الأرض و عروق المراعي و أن عندهم من الخيل و البقر ما لا

يحصى و أنهم يأكلون الميتة و الكلاب و الخنازير و هم أصبر خلق الله على الجوع و العطش و الشقاء و ثيابهم من أخشن الثياب

مسا و منهم من يلبس جلود الكلاب و الدواب الميتة و أنهم أشبه شيء بالوحش و السباع. فأنهي ذلك كله إلى خوارزمشاه فندم على

قتل أصحابهم و على خرق الحجاب بينه و بينهم و أخذ أموالهم و غلب عليه الفكر و الوجل فأحضر الشهاب الخيوفي و هو فقيه

فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه و إجالة الرأي فيما نفعل و ذلك أنه قد

تحرك إلينا خصم من الترك في عدد لا يحصى فقال له عساكرك كثيرة و تكاتب الأطراف و تجمع الجنود و يكون من ذلك نفير عام فإنه

يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال و الرجال ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون و هو نهر كبير يفصل بين بلاد

الترك و بين بلاد خوارزمشاه فتكون هناك فإذا جاء العدو و قد سار مسافة بعيدة لقيناه و نحن جامون مستريحون و قد مسه و عساكره

النصب و اللغوب.

[8 : 222 ]

فجمع خوارزمشاه أمراءه و من عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فقالوا لا بل الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا و يسلكوا

هذه الجبال و المضايق فإنهم جاهلون بطرقها و نحن عارفون بها فنظهر عليهم و نهلكهم عن آخرهم. فكانوا على ذلك حتى وصل

رسول من جنكزخان و معه جماعة يتهدد خوارزمشاه و يقول تقتل أصحابي و تجاري و تأخذ مالي منهم استعد للحرب فإني واصل إليك

بجمع لا قبل لك به. فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه أمر بقتل الرسول فقتل و حلق لحى الجماعة الذين كانوا معه و أعادهم

إلى صاحبهم جنكزخان ليخبروه بما فعل بالرسول و يقولوا له إن خوارزمشاه يقول لك إني سائر إليك فلا حاجة لك أن تسير إلي فلو

كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك و أفعل بك و بأصحابك ما فعلت برسلك. و تجهز خوارزمشاه و سار بعد نفوذ الرسول مبادرا

لسبق خبره و يكبس التتار على غرة فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد و وصل إلى بيوتهم و خركاواتهم فلم ير فيها إلا النساء و

الصبيان و الأثقال فأوقع بهم و غنم الجميع و سبى النساء و الذرية. و كان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة

ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه فهزموه و غنموا أمواله و عادوا فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه

بمخلفيهم فأغذوا السير فأدركوه و هو على الخروج من بيوتهم

[8 : 223 ]

بعد فراغه من الغنيمة فواقعوه و تصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها لا يفترون نهارا و لا ليلا فقتل من الفريقين ما لا يعد و لم ينهزم

منهم أحد. أما المسلمون فصبروا حمية للدين و علموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية ثم إنهم لا ينجون بل يؤخذون و

يؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها و أما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم و أهلهم و اشتد الخطب بين الطائفتين حتى أن أحدهم

كان ينزل عن فرسه و يقاتل قرنه راجلا مضاربة بالسكاكين و جرى الدم على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته و لم يحضر

جنكزخان بنفسه هذه الوقعة و إنما كان فيها قاآن ولده فأحصي من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا و لم يحص عدة من قتل من

التتار. فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانهم و تركوها بحالها و ساروا

راجعين إلى جنكزخان ملكهم و أما المسلمون فرجعوا و معهم محمد خوارزمشاه فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى و علم

خوارزمشاه أنه لا طاقة له بجنكزخان لأن طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه بجميع عساكره بهم فكيف إذا حشدوا و جاءوا على

بكرة أبيهم و ملكهم جنكزخان بينهم. فاستعد للحصار و أرسل إلى سمرقند يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار و جمع

الذخائر للامتناع و المقام من وراء الأسوار و جعل في بخارى عشرين ألف فارس يحمونها و في سمرقند خمسين ألفا و تقدم إليهم

بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم و خراسان فيجمع العساكر و يستنجد بالمسلمين و الغزاة المطوعة و يعود إليهم.

[8 : 224 ]

ثم رحل إلى خراسان فعبر جيحون و كانت هذه الوقعة في سنة ست عشرة و ستمائة فنزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك و استنفر الناس.

و أما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون بلاد ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من رحيل خوارزمشاه عنها و

حصروها فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففتحوا أبواب المدينة ليلا و

خرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان فأصبح أهل بخارى و ليس عندهم من العسكر أحد أصلا فضعفت نفوسهم فأرسلوا قاضي بخارى

ليطلب الأمان للرعية فأعطاه التتار الأمان و قد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها. فلما رأى

أهل بخارى بذلهم للأمان فتحوا أبواب المدينة و ذلك في رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة و ستمائة فدخل التتار بخارى و لم

يتعرضوا لأحد من الرعية بل قالوا لهم كل ما لخوارزمشاه عندكم من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا و ساعدونا على قتال من بالقلعة و

لا بأس عليكم و أظهروا فيهم العدل و حسن السيرة و دخل جنكزخان بنفسه إلى البلد و أحاط بالقلعة و نادى مناديه في البلدان لا

يتخلف أحد و من تخلف قتل فحضر الناس بأسرهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب و الأحطاب و التراب ثم زحفوا نحو القلعة

و كان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان فبذلوا جهدهم و منعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور

القلعة فنقبوه و دخلوا القلعة فقتلوا كل من بها من الجند و غيرهم.

[8 : 225 ]

فلما فرغوا منها أمر جنكزخان أن يكتب له وجوه البلد و رؤساؤهم ففعل ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فأحضروا فقال لهم أريد

منكم الفضة النقرة التي باعها إياكم خوارزمشاه فإنها لي و من أصحابي أخذت فكان كل من عنده شيء منها يحضره فلما فرغ من ذلك

أمرهم بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة فخرجوا مجردين عن أموالهم ليس مع كل واحد منهم إلا ثيابه التي على جسده فأمر بقتلهم

فقتلوا عن آخرهم و أمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه و سبيت النساء و الأطفال و عذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ثم

رحلوا عنه نحو سمرقند و قد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم و استصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى مشاة على أقبح صورة و

كل من أعيا و عجز عن المشي قتلوه. فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة و تركوا الرجالة و الأسارى و الأثقال وراءهم حتى يلتحقوا

بهم شيئا فشيئا ليرعبوا قلوب أهل البلد فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى و الرجالة

و الأثقال و مع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة فأحاطوا بسمرقند و فيها خمسون ألفا من

الخوارزمية و ما لا يحصى كثرة من عوام البلد فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم و خرجت العامة بالسلاح فأطمعهم

التتار في أنفسهم و قهقروا عنهم و قد كمنوا لهم كمناء فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم من ورائهم و شد عليهم من ورائهم جمهور

التتار فقتلوهم عن آخرهم. فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك ضعفت قلوبهم و خيلت للجند الخوارزمي أنفسهم

[8 : 226 ]

أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم للمشاركة في جنسية التركية فخرجوا بأموالهم و أهليهم إليهم مستأمنين فأخذوا سلاحهم و

خيلهم ثم وضعوا السيف فيهم فقتلوهم كلهم ثم نادوا في البلد برئت الذمة ممن لم يخرج و من خرج فهو آمن فخرج الناس إليهم

بأجمعهم فاختلطوا عليهم و وضعوا فيهم السيف و عذبوا الأغنياء منهم و استصفوا أموالهم و دخلوا سمرقند فأخربوها و نقضوا

دورها و كانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة و ستمائة. و كان خوارزمشاه مقيما بمنزله الأول كلما اجتمع له جيش سيره إلى

سمرقند فيرجع و لا يقدم على الوصول إليها فلما قضوا وطرا من سمرقند سير جنكزخان عشرين ألف فارس و قال لهم اطلبوا

خوارزمشاه أين كان و لو تعلق بالسماء حتى تدركوه و تأخذوه و هذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان و

هم الذين أوغلوا في البلاد و مقدمهم جرماغون نسيب جنكزخان. و حكي أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش ابن عم له شديد

الاختصاص به يقال له متكلى نويرة و أمره بالجد و سرعة المسير فلما ودعه عطف متكلى نويرة هذا فدخل إلى خركاه فيها امرأة له كان

يهواها ليودعها فاتصل ذلك بجنكزخان فصرفه في تلك الساعة عن إمارة الجيش و قال من يثني عزمه امرأة لا يصلح لقيادة الجيوش و

رتب مكانه جرماغون فساروا و قصدوا من جيحون موضعا يسمى بنج آب أي خمسة مياه و هو يمنع العبور فلم يجدوا به سفنا فعملوا

من الخشب مثل الأحواض الكبار و لبسوه جلود البقر و وضعوا فيه أسلحتهم و أقحموا خيولهم الماء و أمسكوا بأذنابها

[8 : 227 ]

و تلك الأحواض مشدودة إليها فكان الفرس يجذب الرجل و الرجل يجذب الحوض فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة فلم يشعر

خوارزمشاه بهم إلا و هم معه على أرض واحدة و كان جيشه قد ملئ رعبا منهم فلم يقدروا على الثبات فتفرقوا أيدي سبأ و طلب كل

فريق منهم جهة و رحل خوارزمشاه في نفر من خواصه لا يلوي على شيء و قصد نيسابور فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم

يستقر حتى وصل جرماغون إليه و كان لا يتعرض في مسيره بنهب و لا قتل بل يطوي المنازل طيا يطلب خوارزمشاه و لا يمهله ليجمع

عسكرا فلما عرف قرب التتار منه هرب من نيسابور إلى مازندران فدخلها و رحل جرماغون خلفه و لم يعرج على نيسابور بل قصد

مازندران فخرج خوارزمشاه عنها فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار حتى وصل إلى بحر طبرستان فنزل هو و أصحابه في سفن و

وصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا و أيسوا منه. و هؤلاء الذين ملكوا عراق العجم و أذربيجان فأقاموا بناحية تبريز إلى

يومنا هذا. ثم اختلف في أمر خوارزمشاه فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها و قوم يحكون أنه غرق في

البحر و قوم يحكون أنه غرق و نجا عريانا فصعد إلى قرية من قرى طبرستان فعرفه أهلها فجاءوا و قبلوا الأرض بين يديه و أعلموا

عاملهم به فجاء إليه و خدمه فقال له خوارزمشاه احملني في مركب إلى الهند فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند و هو نسيبه

من جهة زوجته والدة منكبوني بن خوارزمشاه الملك جلال الدين فإنها هندية من أهل بيت الملك فيقال إنه وصل إلى أنليمش و قد

تغير

[8 : 228 ]

عقله مما اعتراه من خوف التتار أو لأمر سلطه الله تعالى عليه فكان يهذي بالتتار بكرة و عشية و كل وقت و كل ساعة و يقول هو ذا هم

قد خرجوا من هذا الباب قد هجموا من هذه الدرجة و يرعد و يحول لونه و يختل كلامه و حركاته. و حكى لي فقيه خراساني وصل إلى

بغداد يعرف بالبرهان قال كان أخي معه و كان ممن يثق خوارزمشاه به و يختصه قال لهج خوارزمشاه لما تغير عقله بكلمة كان يقولها

قرا تتر كلدي يكررها و تفسيرها التتر السود قد جاءوا و في التتر صنف سود يشبهون الزنج لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه

السيوف يأكلون لحوم الناس فكان خوارزمشاه قد أهتر و أغري بذكرهم. و حدثني البرهان قال رقي به شمس الدين أنليمش إلى قلعة

من قلاع الهند حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا و إنما تمطر السحب من تحتها و قال له هذه القلعة لك و ذخائرها أموالك فكن

فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك فالملوك ما زالوا هكذا يدبر طالعهم ثم يقبل فقال له لا أقدر على الثبات فيها و المقام بها لأن

التتر سوف يطلبونني و يقدمون إلى هاهنا و لو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت القلعة فبلغت إلى ذروتها و صعدوا

عليها فأخذوني قبضا باليد فعلم أنليمش أن عقله قد تغير و أن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة فقال فما الذي تريد قال أريد أن

تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس

فمات هناك في قرية من قرى فارس و أخفي موته لئلا يقصده التتر و تطلب جثته.

[8 : 229 ]

و جملة الأمر أن حاله مشتبهة ملتبسة لم يتحقق على يقين و بقي الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه. و يذهب كثير منهم إلى

أنه حي مستتر إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك. فأما جرماغون فإنه لما يئس من الظفر بخوارزمشاه عاد من ساحل البحر إلى

مازندران فملكها في أسرع وقت مع حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها فإنها لم تزل ممتنعة على قديم الوقت حتى أن

المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة من العراق إلى أقصى خراسان بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدي الخراج و لا يقدر المسلمون

على دخولها إلى أيام سليمان بن عبد الملك. و لما ملكت التتار مازندران قتلوا فيها و نهبوا و سلبوا ثم سلكوا نحو الري فصادفوا في

الطريق والدة خوارزمشاه و نساءه و معهن أموال بيت خوارزمشاه و ذخائرهم التي ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة و هن

قاصدات نحو الري ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة فاستولى التتار عليهن و على ما معهن بأسره و سيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند و

صمدوا صمد الري و قد كان اتصل بهم أن محمدا خوارزمشاه قصدها كما يتسامع الناس بالأراجيف الصحيحة و الباطلة فوصلوها على

حين غفلة من أهلها فلم يشعر بهم عسكر الري إلا و قد ملكوها و نهبوها و سبوا الحرم و استرقوا الغلمان و فعلوا كل قبيح منكر فيها

و لم يقيموا بها و مضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن و القرى و أحرقوا و خربوا و قتلوا

الذكران و الإناث و لم يبقوا على شيء و قصدوا نحو همذان فخرج إليهم رئيسها و معه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان عينا و

عروضا و خيلا و طلب منهم الأمان لأهل البلد فأمنوهم و لم يعرضوا لهم

[8 : 230 ]

و ساروا إلى زنجان و استباحوها و إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبة مدينتهم فدخلوها بالسيف عنوة و قاتلهم أهلها قتالا شديدا

بالسكاكين و هم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الإسماعيلية فقتل من الفريقين ما لا يحصى و يقال إن القتلى بلغت أربعين

ألفا من أهل قزوين خاصة. ثم هجم على التتار البرد الشديد و الثلج المتراكم فساروا إلى أذربيجان فنهبوا القرى و قتلوا من وقف

بين أيديهم و أخربوا و أحرقوا حتى وصلوا إلى تبريز و بها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر فلم يخرج إليهم و لا حدث

نفسه بقتالهم لاشتغاله بما كان عليه من اللهو و إدمان الشرب ليلا و نهارا فأرسل إليهم و صالح لهم على مال و ثياب و دواب و حمل

الجميع إليهم فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر لأنه مشتى صالح لهم و المراعي به كثيرة فوصلوا إلى موقان و هي المنزل الذي

نزلته الخرمية في أيام المعتصم و قد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع و الناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف

و قد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل فحاربوهم و هزموهم و قتلوا أكثرهم. فلما

استقروا بموقان راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم و راسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف و كان صاحب

خلاط و إرمينية بمثل ذلك و ظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع و انحسار الثلوج فلم يصبروا و صاروا من موقان في صميم الشتاء

نحو بلاد الكرج فخرجت إليهم الكرج و اقتتلوا قتالا شديدا فلم يثبتوا للتتار و انهزموا أقبح هزيمة و قتل منهم من لا يحصى فكانت

هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة سبع عشرة و ستمائة.

السابق

التالي