السابق

التالي

[8 : 280 ]

و بحري في شرى الحمد على شاكلة البحر

و هذا من التجنيس و ليس بخارج عنه و لكنه تجنيس مخصوص و هو الإتيان به في طرفي البيت. و عد ابن الأثير الموصلي في كتابه من

التجنيس قول الشاعر في الشيب

يا بياضا أذرى دموعي حتى عاد منها سواد عيني بياضا

و كذلك قول البحتري

و أغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل

و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى و العجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال إن قول أبي تمام

أظن الدمع في خدي سيبقى رسوما من بكائي في الرسوم

من التجنيس و قال أي تجنيس هاهنا و المعنى متفق و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين. قالوا فأما الأجناس الستة

الباقية فإنها خارجة عن التجنيس التام و مشبهة به. فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمن ذلك

قول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي

و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر و اهتبال الغرر و قول البحتري

و فر الحائن المغرور يرجو أمانا أي ساعة ما أمان

[8 : 281 ]

يهاب الالتفات و قد تصدى للحظة طرفه طرف السنان

و قال آخر

قد ذبت بين حشاشة و ذماء ما بين حر هوى و حر هواء

و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس و ذلك

نحو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و كذلك قوله سبحانه وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و قوله تعالى ذلِكُمْ

بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ و نحو هذا

ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة

و قال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره. و قال أبو تمام

يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب

و قال البحتري

من كل ساجي الطرف أغيد أجيد و مهفهف الكشحين أحوى أحور

و قال أيضا

شواجر أرماح تقطع بينهم شواجن أرحام ملوم قطوعها

[8 : 282 ]

و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام. و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في

الوزن و التركيب بحرف واحد كقوله تعالى وَ الْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمَساقُ و كقوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

يُحْسِنُونَ صُنْعاً و

كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده

و قول بعضهم الصديق لا يحاسب و العدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة. قال و من هذا القسم قول أبي تمام

أيام تدمى عينه تلك الدمى حسنا و تقمر لبه الأقمار

بيض فهن إذا رمقن سوافرا صور و هن إذا رمقن صوار

و كذلك قوله أيضا

بدر أطاعت فيك بادرة النوى ولعا و شمس أولعت بشماس

و قوله أيضا

جهلوا فلم يستكثروا من طاعة معروفة بعمارة الأعمار

و قوله أيضا

إن الرماح إذا غرسن بمشهد فجنى العوالي في ذراه معال

[8 : 283 ]

و قوله أيضا

إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا بلا نعمة أحسنت أن تتطولا

و قوله أيضا

شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان حتى استهل صوب العزالي

أي ربع يكذب الدهر عنه و هو ملقى على طريق الليالي

بين حال جنت عليه و حول فهو نضو الأوحال و الأحوال

أي حسن في الذاهبين تولى و جمال على ظهور الجمال

و دلال مخيم في ذرى الخيم و حجل مقصر في الحجال

فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل. و من ذلك قول علي بن جبلة

و كم لك من يوم رفعت عماده بذات جفون أو بذات جفان

و كقول البحتري

نسيم الروض في ريح شمال و صوب المزن في راح شمول

و كقوله أيضا

جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه ضبابة نقع تحتها الموت ناقع

[8 : 284 ]

و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه

الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و الأقمار تختلف

بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا

بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من

التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري

و لم يكن المعتز بالله إذ سرى ليعجز و المعتز بالله طالبه

ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري

قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا فمالك موتور و سيفك واتر

و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس

أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس. و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و

عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم. و من ذلك قول الأضبط بن قريع

قد يجمع المال غير آكله و يأكل المال غير من جمعه

[8 : 285 ]

و يقطع الثوب غير لابسه و يلبس الثوب غير من قطعه

و مثله قول المتنبي

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله و لا مال في الدنيا لمن قل مجده

و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان

أسف بمن يطير إلى المعالي و طار بمن يسف إلى الدنايا

و مثله قول آخر

إن الليالي للأنام مناهل تطوى و تنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة و طوالهن مع السرور قصار

و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه

غيرتنا يد الزمان فقد شبت و التحى

فاستحال الضحى دجى و استحال الدجى ضحى

و يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك. و مثله

قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار

قالوا و منه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا

بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه

و بقول أبي تمام لأبي العميثل

[8 : 286 ]

و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا

تفهمان ما يقال. و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم و قد أهدى لصديق له كرسيا

أهديت شيئا يقل لو لا أحدوثة الفأل و التبرك

كرسي تفاءلت فيه لما رأيت مقلوبه يسرك

و كقول الآخر

كيف السرور بإقبال و آخره إذا تأملته مقلوب إقبال

أي لا بقاء و كقول الآخر

جاذبتها و الريح تجذب عقربا من فوق خد مثل قلب العقرب

و طفقت الثم ثغرها فتمنعت و تحجبت عني بقلب العقرب

يريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم

أبا الفياض لا تحسب بأني لفقري من حلى الأشعار عار

فلي طبع كسلسال معين زلال من ذرا الأحجار جار

و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن

حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام

[8 : 287 ]

بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك و الريب

و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو

ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق

و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم

البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك

مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْء إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ

الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْ آنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ

وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْض وَ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ قَدِ

اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ

الْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ

[8 : 288 ]

هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه

من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشيء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا. أما قوله كل

شيء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب

و لذيذ الحياة أنفس في النفس و أشهى من أن يمل و أحلى

و إذا الشيخ قال أف فما مل حياة و لكن الضعف ملا

و قال أيضا

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبا

فحب الجبان النفس أورده البقا و حب الشجاع النفس أورده الحربا

و قال أبو العلاء

فما رغبت في الموت كدر مسيرها إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن

يصادفن صقرا كل يوم و ليلة و يلقين شرا من مخالبه الحجن

و لا قلقات الليل باتت كأنها من الأين و الإدلاج بعض القنا اللدن

[8 : 289 ]

ضربن مليعا بالسنابك أربعا إلى الماء لا يقدرن منه على معن

و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله و كلف نوحا و ابنه عمل السفن

و ما استعذبته روح موسى و آدم و قد وعدا من بعده جنتي عدن

و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب

عذرتكما إن الحمام لمبغض و إن بقاء النفس للنفس محبوب

و يكره طعم الموت و الموت طالب فكيف يلذ الموت و الموت مطلوب

و قال أبو الطيب أيضا

طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس أن الحمام مر المذاق

و الأسى قبل فرقة الروح عجز و الأسى لا يكون بعد الفراق

البحتري

ما أطيب الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

و قال آخر

أوفى يصفق بالجناح مغلسا و يصيح من طرب إلى الندمان

يا طيب لذة هذه الدنيا لنا لو أنها بقيت على الإنسان

و قال آخر

أرى الناس يهوون البقاء سفاهة و ذلك شيء ما إليه سبيل

و من يأمن الأيام أما بلاؤها فجم و أما خيرها فقليل

[8 : 290 ]

و قال محمد بن وهيب الحميري

و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شيء محبب

و هذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه

و قال آخر

يا موت ما أفجاك من نازل تنزل بالمرء على رغمه

تستلب العذراء من خدرها و تأخذ الواحد من أمه

أبو الطيب

و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها نخلى

شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لا

فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من

قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر

و من قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت

و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما

طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و

رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له

و كذلك قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت

تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة

في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده.

[8 : 291 ]

فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله

قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و

أمير المؤمنين قال ما من شيء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة

و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه. فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل

قيل في عكس ذلك و نقيضه شيء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا إن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا

و قال آخر

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان لقائه بلقائه و فراق كل معاشر لا ينصف

و قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه. إبراهيم بن

مهدي

و إني و إن قدمت قبلي لعالم بأني و إن أبطأت عنك قريب

و إن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة حبيب

و قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا

[8 : 292 ]

فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي

لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من

تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح

حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ

وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْ آخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن

الإنسان هو الحي الناطق الميت. و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه. و قال الشاعر

جزى الله عنا الموت خيرا فإنه أبر بنا من كل بر و أرأف

يعجل تخليص النفوس من الأذى و يدني من الدار التي هي أشرف

و قال آخر

من كان يرجو أن يعيش فإنني أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

في الموت ألف فضيلة لو أنها عرفت لكان سبيله أن يعشقا

و قال أبو العلاء

جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا شرا إلي فجل الواحد الصمد

[8 : 293 ]

فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسد

إذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يد

و قال أبو العتاهية

المرء يأمل أن يعيش و طول عمر قد يضره

تفنى بشاشته و يبقى بعد حلو العيش مره

و تخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي أن هلكت و قائل لله دره

و قال ابن المعتز

أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له لكن للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أرى فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا

فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من

كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور

الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في

قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا

[8 : 294 ]

لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و في قوله وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه

كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في

العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه. فأما قوله و كتاب

الله إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى

قوله و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله و هل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله فهو أنه لا

يختلف في الدلالة على الله و صفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا و

تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى و بعضها على أنه يرى و ليس وجودنا للآيات المشتبهة

بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل و إنما توهم و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشيء و نقيضه. و أما

قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه و لا

يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه و سلكت به غير جهته.

[8 : 295 ]

فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل الحقد. و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا و

قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي

تنبت النبات و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن و هو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من

الأرض يقال قد دمن الشاء الماء و قد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر و

غيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر

و قد ينبت المرعى على دمن الثرى و تبقى حزازات النفوس كما هيا

قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت

القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي

استدعيت أن يعلمني و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني فيكون قوله و استهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن

تهيموا و تقعوا في التيه و الضلال و الحيرة. قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ و تاه بكم

جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم و من كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا

و أدناهم مني جوارا و هي نفسي

[8 : 296 ]

134- و من كلام له ع و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم

وَ قَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَ الَّذِي نَصَرَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ

حَيٌّ لَا يَمُوتُ إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ

إِلَيْهِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ

مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ

توكل لهم صار وكيلا و يروى و قد تكفل أي صار كفيلا. و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته و يقول إنما الذي نصرهم في الابتداء

على ضعفهم هو الله تعالى و هو حي لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا و قوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر. و

كهف أي و كهف يلجأ إليه و يروى كانفة أي جهة عاصمة من قولك كنفت الإبل جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به و تعتصم.

[8 : 297 ]

و رجل محرب أي صاحب حروب. و حفزت الرجل أحفزه دفعته من خلفه و سقته سوقا شديدا. و كنت ردءا أي عونا قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ

مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي. و مثابة أي مرجعا و منه قوله تعالى مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب فيذهب

المسلمون كلهم لذهاب الرأس بل يبعث أميرا من جانبه على الناس و يقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه. فإن قلت فما بال

رسول الله ص كان يشاهد الحروب بنفسه و يباشرها بشخصه قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر و آمنا على نفسه بالوعد

الإلهي في قوله سبحانه وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ و ليس عمر كذلك. فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع شهد حرب الجمل و صفين و

النهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا و أقام بالمدينة ردءا و مثابة. قلت عن هذا جوابان أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص أنه لا

يقتل في هذه الحروب و يشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة يقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و ثانيهما يجوز

أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه و لم يجد أميرا محربا من أهل البلاء و النصيحة لأنه

ع هكذا قال لعمر و اعتبر هذه القيود و الشروط فمن كان من

[8 : 298 ]

أصحابه ع محربا لم يكن من أهل النصيحة له و من كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه

غزوة فلسطين و فتح بيت المقدس

و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس و قد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ و قال إن

عليا ع هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام و إن عليا ع قال له لا تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال عمر

إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل فمات العباس لست

سنين خلت من إمارة عثمان و انتقض بالناس الشر. قال أبو جعفر و قد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء و هي بيت

المقدس رجل اسمه على ثلاثة أحرف فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه فيعلمون أنه ليس بصاحبهم فلما طال

عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر و قالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ليوم سماه

لهم فلقوه و هو راكب حمارا و كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم خالد بن الوليد على الخيول و عليهم

الديباج و الحرير فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجارة و رماهم بها و قال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي

[8 : 299 ]

تستقبلون في هذا الزي و إنما شبعتم منذ سنتين سرع ما ترت بكم البطنة و تالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم

غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي يلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا قال أبو جعفر فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه

الصلح فصالحهم و كتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس فقصر فرسه عن المشي فأتي ببرذون فركبه فهزه و

هملج تحته فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه و قال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي فركبه و سار حتى انتهى إلى بيت المقدس. قال

و لم يركب برذونا قبله و لا بعده و قال أعوذ بالله من الخيلاء. قال أبو جعفر و لقيه معاوية و عليه ثياب ديباج و حوله جماعة من

الغلمان و الخول فدنا منه فقبل يده فقال ما هذا يا ابن هند و إنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم و قد بلغني أن ذوي

الحاجات يقفون ببابك فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو و نحب أن يرى أثر نعمة الله علينا و أما الحجاب فأنا نخاف

من البذلة جرأة الرعية فقال ما سألتك عن شيء إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب و إن كنت كاذبا

فإنها خدعة أريب. و قد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر قيل لما قدم عمر الشام قدمها و هو راكب حمارا قريبا من الأرض و

معه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب أيضا فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء فثنى وركه و نزل و سلم بالخلافة فلم يرد عليه.

[8 : 300 ]

فقال له عبد الرحمن أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم قال مع شدة احتجابك و

وقوف ذوي الحاجات ببابك قال أجل قال لم ويحك قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم فإن لم نتخذ العدة و العدد استخف بنا و

هجم على عوراتنا و أنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت و إن استزدتني زدت و إن استوقفتني وقفت فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب

و إن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ما سألتك عن شيء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس لا آمرك و لا أنهاك فلما انصرف

قال عبد الرحمن لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه فقال لحسن إيراده و إصداره جشمناه ما جشمناه. قال أبو جعفر شخص عمر

من المدينة إلى الشام أربع مرات و دخلها مرة راكب فرس و مرة راكب بعير و مرة راكب بغل و مرة راكب حمار و كان لا يعرف و ربما

استخبره الواحد أين أمير المؤمنين فيسكت أو يقول سل الناس و كان يدخل الشام و عليه سحق فرو مقلوب و إذا حضر الناس طعامه

رأوا أخشن الطعام. قال أبو جعفر و قدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس فكل أشار

عليه بالرجوع و ألا يدخلها إلا أبا عبيدة بن الجراح فإنه قال أ تفر من قدر الله قال نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله لو

غيرك قالها يا أبا عبيدة فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم

عن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها

فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة و مات أبو عبيدة في ذلك الطاعون و

هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس و كان في سنة سبع عشرة من الهجرة

[8 : 301 ]

135- و من كلام له ع و قد وقعت بينه و بين عثمان مشاجرة

فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة

يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ اخْرُجْ

عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ

هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة و إنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن

اللعين لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح

بألسنتهم دون قلوبهم و أعطاه رسول الله ص مائة من الإبل من غنائم حنين يتألف بها قلبه و ابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أمير

المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب و هو أخو المغيرة هذا و الحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة و إنما قال له يا ابن

الأبتر لأن من كان عقبة ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه و يروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزة. و يروى أبعد

الله نوءك من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها و كانوا إذا دعوا على إنسان قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك.

[8 : 302 ]

و الجهد بالفتح الغاية و يقال قد جهد فلان جهده بالفتح لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته و قد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا. و

روي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا

و روى الحسن البصري أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت بيتان من مكة و هما بنو أمية و بنو المغيرة و بيت من الطائف و هم ثقيف. و

في الخبر المشهور المرفوع و قد ذكر ثقيفا بئست القبيلة يخرج منها كذاب و مبير

فكان كما قال ص الكذاب المختار و المبير الحجاج. و اعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان و لكن عوانة روى عن إسماعيل بن

أبي خالد عن الشعبي أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا فقال

له زيد بن ثابت الأنصاري و كان من شيعته و خاصته أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك قال بلى فأتاه زيد و معه المغيرة

بن الأخنس بن شريق الثقفي و عداده في بني زهرة و أمه عمة عثمان بن عفان في جماعة فدخلوا عليه فحمد زيد الله و أثنى عليه ثم قال

أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به فأنت للخير كل الخير أهل و أمير

المؤمنين عثمان ابن عمك و والي هذه الأمة فله عليك حقان حق الولاية و حق القرابة و قد شكا إلينا أن عليا يعرض لي و يرد أمري علي

و قد مشينا إليك نصيحة لك و كراهية أن يقع بينك و بين ابن عمك أمر نكرهه لكما. قال فحمد علي ع الله و أثنى عليه و صلى على

رسوله ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد عليه إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق و و الله لأكفن عنه

ما وسعني الكف.

[8 : 303 ]

فقال المغيرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا و كان من شيعة عثمان و خلصائه إنك و الله لتكفن عنه أو لتكفن فإنه أقدر عليك منك عليه

و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر و الشجرة التي لا

أصل لها و لا فرع أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره اخرج أبعد الله نواك ثم اجهد جهدك فلا أبقى الله عليك و لا على

أصحابك إن أبقيتم. فقال له زيد إنا و الله ما جئناك لنكون عليك شهودا و لا ليكون ممشانا إليك حجة و لكن مشينا فيما بينكما

التماس الأجر أن يصلح الله ذات بينكما و يجمع كلمتكما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه. و هذا الخبر يدل على أن اللفظة أنت

تكفني و ليست كما ذكره الرضي رحمه الله أنت تكفيني لكن الرضا طبق هذه اللفظة على ما قبلها و هو قوله أنا أكفيكه و لا شبهة أنها

رواية أخرى

فصل في نسب ثقيف و طرف من أخبارهم

و إنما قال له و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع لأن ثقيفا في نسبها طعن فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن و هو القول الذي

تزعمه الثقفيون قالوا هو ثقيف و اسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر و

على هذا القول جمهور الناس. و يزعم آخرون أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان و أن النخع أخوه لأبيه

[8 : 304 ]

و أمه ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن و الآخر في عداد مذحج بن مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن

يعرب بن قحطان. و قد روى أبو العباس المبرد في الكامل لأخت الأشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه

أ بعد الأشتر النخعي نرجو مكاثرة و نقطع بطن واد

و نصحب مذحجا بإخاء صدق و أن ننسب فنحن ذرا إياد

ثقيف عمنا و أبو أبينا و إخوتنا نزار أولو السداد

قال أبو العباس و هجا يحيى بن نوفل و كان هجاء خبيث اللسان العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي و قد كان العريان تزوج امرأة

اسمها زباد مبني على الكسر و الزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة و هي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني و كانت قبله تحت

الوليد بن عبد الملك بن مروان فطلقها فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد فقال يحيى بن نوفل

أ عريان ما يدري امرؤ سيل عنكم أ من مذحج تدعون أم من إياد

فإن قلتم من مذحج إن مذحجا لبيض الوجوه غير جد جعاد

و أنتم صغار الهام حدل كأنما وجوهكم مطلية بمداد

و إن قلتم الحي اليمانون أصلنا و ناصرنا في كل يوم جلاد

فأطول بأير من معد و نزوة نزت بإياد خلف دار مراد

ضللتم كما ضلت ثقيف فما لكم و لا لهم بين القبائل هاد

لعمر بني شيبان إذ ينكحونه زباد لقد ما قصروا بزباد

[8 : 305 ]

أ بعد وليد أنكحوا عبد مذحج كمنزية عيرا خلاف جواد

و أنكحها لا في كفاء و لا غنى زياد أضل الله سعي زياد

قال أبو العباس و كان المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر و هي فيه عمياء مترهبة فاستأذن

عليها فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب قالت قولوا له من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال لا قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت

قال لا قالت فمن أنت قال أنا المغيرة بن شعبة الثقفي قالت فما حاجتك قال جئت خاطبا قالت لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك و

لكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر و إلا فأي خير في اجتماع أعور و عمياء فبعث إليها

كيف كان أمركم قالت سأختصر لك الجواب أمسينا و ليس في الأرض عربي إلا و هو يرهبنا أو يرغب إلينا و أصبحنا و ليس في الأرض

عربي إلا و نحن نرهبه و نرغب إليه قال فما كان أبوك يقول في ثقيف قالت أذكر و قد اختصم إليه رجلان منهم أحدهما ينتهي إلى إياد

و الآخر إلى هوازن فقضى للإيادي و قال

إن ثقيفا لم تكن هوازنا و لم تناسب عامرا أو مازنا

فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء ثم انصرف. و قال قوم آخرون إن ثقيفا من بقايا ثمود من العرب القديمة

التي بادت و انقرضت.

[8 : 306 ]

قال أبو العباس و قد قال الحجاج على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود فقد كذبهم الله بقوله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى. و قال مرة أخرى و

لئن كنا من بقايا ثمود لما نجا مع صالح إلا خيارهم. و قال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي أي أقدم أ نزول ثقيف الطائف أم نزول

طيئ الجبلين فقال له أبو العسوس إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن فنزول طيئ الجبلين قبلها و إن كانت من بقايا ثمود فهي أقدم

فقال الحجاج اتقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهور فقال أبو العسوس قال أبو العباس و كان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع و

كان الحجاج يمازحه

يؤدبني الحجاج تأديب أهله فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا

و إني لأخشى ضربة ثقفية يقد بها ممن عصاه المقلدا

على أنني مما أحاذر آمن إذا قيل يوما قد عصى المرء و اعتدى

و قتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار و قد ذكرنا مقتله فيما تقدم

تم الجزء الثامن من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء التاسع 

السابق

التالي